مقالات

من تاريخ الخيانة .. الجزء الخامس

المعلم يعقوب (2)

لم يكتف المعلم يعقوب بتأسيس الجيش القبطي لمحاربة المماليك والمصريين لصالح الفرنساوية، بل شارك في القتال بنفسه ضد المماليك بالصعيد، إذ قاد فصيلة من الجيش الفرنسي ضد قوة مملوكية في أسيوط، واستطاع أن يحقق الانتصار مما رفع من شأنه عند المحتل الفرنسي.

نشأت بين يعقوب والجنرال ديزيه صداقةٌ قوية، وعندما مات ديزيه في معركة مارنجو (في حربه مع النمسا)، افتُتِح اكتتابٌ بين جنود الجيش الفرنسي في مصر لبناء نصب تذكاري تخليدًا لذكراه، فكتب المعلم يعقوب إلى القائد العام قائلًا إنه متبرع وحده بثلث المبلغ المطلوب لبناء هذا النصب التذكاري حبًا في ديزيه وتقديرًا له، ووصفه بأنه هو الذي “وهبه الإيمان”، وقد تكفي هذه الكلمة للرد على من يشكك في الطبيعة الطائفية لأفعال يعقوب وهو يحارب المماليك والمصريين لصالح الفرنسيين.

لقد كانت صداقة يعقوب وديزيه حقيقية لدرجة أن يعقوب كتب فيه قصيدة شعرية، كتب هو معناها لكن الذي صاغها شعرًا كان الأب روفائيل، إذ يرثي يعقوب صديقه ديزيه في تلك القصيدة التي كانت غاية في السخافة والركاكة، فيقول:

أذرفنا على ذكر الحبيب دموعًا         سكرنا بها ليوم البعث والحشر

اضغط على الاعلان لو أعجبك

حبيب وقد ذاع صيته أبدًا               بطل وقد عرف في سائر القطر

وغيره من الكلام الساذج.

اندلاع ثورة القاهرة الثانية

بينما كان القتال دائرًا بين العثمانيين والفرنسيين وقعت ثورة القاهرة الثانية في 20 أبريل عام 1800 واستمرت نحو الشهر، ولعب أعيان القاهرة وتجارها وكبار مشايخها دورًا كبيرًا فيها على عكس الثورة الأولى، فتزعموا الثورة هذه المرة ودعموا بأموالهم وخرج السيد عمر مكرم نقيب الأشراف والسيد أحمد المحروقي شاه بندر التجار على رأس جمع كبير من عامة أهل القاهرة، «وبأيدي كثير منهم النبابيت والعصي وقليل معهم السلاح»، وصاروا يطوفون بالأزقة والحارات وهم يرددون الهتافات المعادية للفرنسيين، وتحصن الفرنسيون بمعسكرهم في الأزبكية. وسرعان ما انتشر لهيب الثورة في ربوع البلد، ولا يمكننا الاستطراد كثيرًا في سرد أحداث تلك الثورة والروح الشعبية العظيمة التي تجلت فيها، لأنه أمر يطول شرحه بل هو جدير بتأليف كتب كثيرة عنه، وقد تسنح فرصة لأن نفرد مقالًا لهذه الثورة في مناسبة أخرى لما فيها من عبر ودروس كثيرة.

لكن للأسف استطاع يعقوب أن يخطط مع الفرنساوية لإفشال هذه الثورة بالطرق الممكنة كلها، إذ كان من ضمن مَكرِه أن يعمل على أن يهادن الفرنساوية مراد بك ويعينونه حاكمًا للصعيد مقابل أن يتعاون معهم في إجهاض هذه الثورة، فراح مراد يتفنن في إقناع زعماء الثورة بالهدوء والمهادنة، ومد الفرنسيين بالمؤن والعتاد والذخائر وسلمهم العثمانيين الذين لجأوا إليه، ولم يكتف بذلك كله بل أرسل إليهم أيضًا سفنًا محملة بالحطب والمواد الملتهبة لإحراق القاهرة وترويع الناس حتى ينفضوا ويتركوا الثورة، وهي صورة أخرى لا تصدق من صور الخيانة التي يندى لها الجبين، لقد خان مراد المصريين وهو مسلم مثلما خانهم المعلم يعقوب وهو مسيحي، الفرق الوحيد بين الخيانتين هو الدافع، فمراد وقع في الخيانة العظمى من أجل استرداد سلطته على الصعيد، في حين فعل يعقوب الخيانة نفسها بدافع التعصب الطائفي.

الجنرال كليبر يُخمد ثورة القاهرة الثانية

FB IMG 1536706623711 - من تاريخ الخيانة .. الجزء الخامس

اضغط على الاعلان لو أعجبك

نجحت القوات الفرنسية بقيادة كليبر وبالتعاون مع الجيش القبطي بقيادة يعقوب وخيانة مراد بك في إفشال هذه الثورة العظيمة ثورة القاهرة الثانية، وبعد ذلك راح كليبر يعاقب الثوار ويكافئ الذين تعاونوا مع الفرنسيين، كان الفائز بنصيب الأسد من هذه المكافآت المعلم يعقوب، فقد فرض كليبر غرامةً كبيرة على الأهالي وجعل يعقوب مسؤولًا عن جمع هذه الأموال “وبالوسائل التي يراها مناسبة”، مما ضاعف ثروته مرات ومرات فقد كان يجمع الضرائب للفرنسيين ولنفسه.

واصل الفرنسيون وجيش الأقباط بقيادة يعقوب تعسفهم في جمع الأموال، التي فرضها الاحتلال الفرنسي على المصريين في عهد مينو بعد مقتل كليبر على يد سليمان الحلبي، كما استمر يعقوب وجيشه في تقديم المساعدة العسكرية للفرنسيين، إذ حصَّنوا القاهرة في وجه العثمانيين عندما اقتربوا منها للمرة الثانية (مايو 1801م)، وفي ذلك يقول الجبرتي: “توكل رجل قبطي يقال له عبد الله من طرف يعقوب بجمع طائفة من الناس لعمل المتاريس، فتعدى على بعض الأعيان، وأنزلهم من على دوابهم وعسف وضرب بعض الناس على وجهه حتى أسال دمه، فتشكى الناس من ذلك القبطي”. ومن المؤسف حقًّا أن بعض المسلمين كانوا من أعوان يعقوب في قهر المصريين وإذلالهم، إذ يذكر الجبرتي رجلًا يُدعى مصطفى الطاراتي، كان من موظفي الإدارة العثمانية ثم التحق بخدمة الفرنسيين، وقد أُلقِي القبض عليه وأُعدِم في ميدان باب الشعرية بعد رحيل الحملة الفرنسية.

يؤكد المؤرخ شفيق غربال دور المعلم يعقوب في نصر الفرنسيين وهزيمة المصريين بعرض رسالةٍ كتبها الجنرال “عبد الله جاك مينو”، وهو قائد الحملة بعد مقتل كليبر –الذي أعلن إسلامه وتزوج مصرية من رشيد– رسالة كتبها مينو إلى بونابرت يقول فيها‏:‏ ‏”إني وجدت رجلًا ذا دراية ومعرفةٍ واسعة اسمه المعلم يعقوب وهو الذي يؤدي لنا خدماتٍ باهرة، منها تعزيز قوة الجيش الفرنسي بجنود إضافية من القبط لمساعدتنا”.

الجنرال يعقوب والفيلق القبطي

كما يقول المؤرخ الفرنسي البارز والمتخصص في تاريخ حملة بونابرت على مصر هنري لورنس في كتابه “المغامر والمستشرق” (المجلس الأعلى للثقافة في مصر، ترجمة: بشير السباعي، 2003)، إنه بعد أن قتل كليبر، قدّم الفارس المالطي تيودور دو لاسكاريس اقتراحًا بأنه من المهم ترك حزب قوي ليستمر في الحفاظ على النفوذ السياسي والتجاري في مصر، ولذلك يجب تعزيز الفيلق القبطي الذي يقوده المعلم يعقوب، فترقّى يعقوب إلى رتبة جنرال، ليكون أول أجنبي ينال هذه الرتبة في الجيش الفرنسي، في حين نال ابن أخيه لقب كولونيل.

كما جعله القائد العام عبد الله جاك مينو مساعدًا للجنرال بليار في مارس آذار عام 1801 للدفاع عن القاهرة، فأنشأ شبكة التجسس لمواجهة ثورات القاهرة التي اندلعت ضد الاحتلال، ولولا خدمات يعقوب لما تمكنت القوات الفرنسية من قمع ثورتي القاهرة الأولى والثانية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لكن نتيجة للحرب التي شنها عليهم العثمانيون والإنجليز، ضعف موقف الفرنسيين، فقد زحف الجيش العثماني نحو القاهرة، وزحف الجيش الإنجليزي من رشيد بعد أن فرض حصارًا على “مينو” في الإسكندرية. وزاد من صعوبة الموقف الفرنسي انتشار مرض الطاعون في صفوف الجنود الفرنساوية، إذ مات كثير منهم بسبب الوباء، فاضطر الفرنسيون للتفاوض مع العثمانيين والإنجليز، وهي المفاوضات التي أسفرت عن توقيع اتفاق الجلاء عن مصر. تضمنت اتفاقية الجلاء شرطين وُضِعا من أجل إنقاذ عملاء فرنسا ومعاونيها من قبط مصر وغيرهم، كان الشرط الأول: كل من أراد من أهل مصر أيًّا كان دينه أن يصحب الفرنسيين في عودتهم إلى فرنسا، فله ذلك، وكان الشرط الثاني: كل من التحق بخدمة الفرنسيين لا يكون قلقًا على حياته أو ممتلكاته.

حال الأقباط في ظل الحكم العثماني على مصر

Entrance to the city of Cairo David Roberts 1024x576 - من تاريخ الخيانة .. الجزء الخامس

وهكذا فقد أَمِن على نفسه وماله وعياله كل من تعاون مع الفرنسيين في أثناء الاحتلال. وبناء على هذا الأمان قرر كثيرون ممن تعاونوا مع الفرنسيين الرحيل معهم إلى فرنسا، وعلى رأسهم المعلم يعقوب الذي خرج بمتاعه إلى الروضة في صحبة عدد كبير من عسكر القبط، كما قرر الهجرة إلى فرنسا أعداد كبيرة من القبط والأجانب، بالإضافة إلى بعض المسلمين ممن تورطوا في التعاون مع الفرنسيين بحثًا عن المال، ويذكر الجبرتي أنه بعد مرور نحو شهر من خروج هؤلاء المهاجرين إلى القاهرة “حضرت جماعة من عسكر القبط الذين كانوا ذهبوا بصحبة الفرنساوية، فتخلفوا عنهم ورجعوا إلى مصر”. ومعنى ذلك أن جزءًا من عسكر الفيلق القبطي التابع للمعلم يعقوب تراجع عن قرار الهجرة وقرر البقاء في مصر، ومما ساعد على ذلك حرص العثمانيين على تكرار المناداة بالأمان وإشاعة جو من التسامح والتجاوز عن الماضي، وبدء صفحة جديدة في العلاقات بين مختلف طوائف السكان. وكان العثمانيون يهدفون من وراء هذه السياسة إلى اكتساب تأييد أهل مصر جميعًا، ومنع وقوع أي منازعات طائفية تضرُّ بأمن البلاد، ويذكر الجبرتي أنه بعد مرور شهر من توقيع اتفاقية الجلاء عن القاهرة “نُودي بأن لا أحد يتعرض بالأذية لنصراني ولا يهودي سواء كان قبطيًّا أو روميًّا أو شاميًّا فإنهم من رعايا السلطان، والماضي لا يعاد”. ولم تكن إذاعة هذا الأمان مقصورة على القاهرة، بل شملت عددًا من أقاليم الوجه البحري والقبلي، وهو الأمر الذي سمح للأقباط بالعودة مرة أخرى إلى مزاولة وظائفهم الإدارية والمالية. مع ذلك فلم يتراجع يعقوب عن قرار الهجرة إلى فرنسا لعلمه بأن خياناته لا تغتفر، وقد رافقته أسرته والدته وبعض أشقائه وأقاربه وكان من الذين رافقوه أيضًا إلياس بقطر، ابن شقيقه، الذي كتب فيما بعد القاموس الشهير العربي فرنسي، والمعروف بقاموس إلياس. وعدد من أعيان المصريين منهم لطفي نمر، وجورج عقيدة الذي كان مديرًا لجمارك القاهرة في أثناء الحملة الفرنسية، ونقولا السكاكيني، وفرج خوري وشقيقه ميشيل خوري، وأبحرت الباخرة.

نهاية يعقوب المأساية

في العاشر من شهر أغسطس أبحرت بهم السفينة الفرنسية “بالاس”، لكن هرب كثير من الأقباط رافضين الهجرة واختفوا، واجتمعت نساؤهم وأهلهم وذهبوا إلى قائمقام وبكوا وولولوا، وترجوه في أن يبقيهم عند عيالهم وأولادهم فهم فقراء وأصحاب مهن، فمنهم النجار والبناء والصانع وغير ذلك، فوعدهم أن يرسل إلى يعقوب أن لا يجبر أحدًا ممن لا يريد السفر والذهاب معه، وبعد إقلاع السفينة بيومين نزل عقاب السماء بالخائن يعقوب، فأصيب بالحمى ومات في عرض البحر بعد أيام إثر إسهال حاد. وتعفنت جثته على ظهر السفينة إذ بقيت عليها حتى مارسيليا حيث دفن هناك، وكانت آخر وصيةٍ له همس بها في أذن بليار وهو يحتضر هو رجاؤه أن يدفن إلى جانب الجنرال ديزيه، وبالفعل نفذ الفرنسيون وصيته.

مقالات ذات صلة:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الجزء الأول من المقال، الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال، الجزء الرابع من المقال

الجزء الخامس من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ . شامخ الشندويلى

الشاعر والكاتب والسيناريست المعروف

مقالات ذات صلة