مقالات

من تاريخ الخيانة

كنت أقرأ مجموعة قصصية لألفريد هيتشكوك، ولمن لا يعرف هيتشكوك كاتبًا أقول له: إن أعماله القصصية لا تقل جمالًا عن أفلامه، وإنه متمكن أديبًا كما هو متمكن مخرجًا كبيرًا صاحب ريادة وابتكار في فن تحريك الكاميرا، وقصص هيتشكوك في رأيي مثل أفلامه لا تسعى إلى الرعب بقدر ما تقدم معنى إنسانيًا وعبرة أخلاقية، كما أنها أقرب إلى استخدام الغموض وعنصر المفاجأة من استخدامها للرعب.

في إحدى قصص تلك المجموعة لفت نظري معنى أعادني بذاكرتي إلى حكايات تاريخية كثيرة، تلك القصة اسمها “رجل شديد الحذر”، وفيها يرتكب البطل جريمة قتل لصالح أحد المجرمين مقابل مبلغ من المال وعده به ذلك المجرم، لكنه بعد أن أنجز مهمته غدر به ذلك المجرم وقتله حتى لا يطالبه بالأجر المتفق نظير جريمته، وهكذا كانت معاونته للمجرم وبالًا عليه، وقد تتأكد من هذه القصة ما ذكرناه من أن قصص هيتشكوك ليست قصص رعب بقدر ما يمكن تصنيفها ضمن أدب الفلسفة الأخلاقية.

أما الحكايات التي أعادتني إليها تلك القصة فهي حكايات حقيقية تحمل نفس المغزى في عصور مختلفة من تاريخنا العربي والإسلامي.

فكثير من حكام ديار الإسلام ومنذ مئات السنين جعلوا من أنفسهم خدمًا للظالمين وعملاء للعدو، ومنهم من ساعد المغول وأعانهم على فتح بلاد المسلمين، فما كان من المغول إلا أن قتلوهم، فلا أحد يرحب بالخونة ولو أعانوه، ولهذا كان جزاؤهم شر الجزاء.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

اقرأ أيضاً: مين اللي باع أرض فلسطين لليهود؟

“جزاء سنمار”

وقال الشاعر في ذلك: جزتنا بنو سعد لحسن فعالنا   جزاء سنمار وما كان ذا ذنب

وهذا المثل يضرب فيمن يقابل الحسنة بالسيئة، أو يعين ظالمًا فيجازيه أسوأ الجزاء.

يشير المثل إلى قصة مهندس رومي خبير متمكن قبل الإسلام اسمه “سنمار”، وكان النعمان بن امرىء القيس وقتها ملكًا على الحيرة، إذ عُرف بالقسوة وشدة الظلم، وعندما أراد النعمان أن يبني قصرًا يباهي به الملوك استدعى سنمار فبنى له القصر المشهور باسم “الخورنق”، وقد استغرق في بنائه زمنًا طويلًا لكي يكون بناءً لا مثيل له كما أراد الملك، وبعد أن أتم سنمار عمله على أحسن ما يكون، نظر النعمان إلى القصر، فخشي أن يبني سنمار قصرًا مماثلًا لغيره من الملوك، ففكر في التخلص منه حتى لا يفعل، وكان سنمار قد قال للملك: إن هذا البناء الجميل فيه حجر إذا تحرك من مكانه انهدم البناء كله، وعرّفه بموضع ذلك الحجر ليبرهن له على مهارته وتمكنه، وعندها تعززت رغبة الملك في قتل سنمار ليحافظ على هذا السر أيضًا، فهو نقطة ضعف في القصر لو علم بها أعداؤه لاستغلوها ضده، وهكذا صعد النعمان مع سنمار إلى أعلى القصر ثم دفعه من الأعلى فسقط ميتًا، ليكون الموت جزاء خدمته لملك ظالم.

آخرة خدمة الغُز علقة

ومن أمثالنا الشعبية التي تشير إلى قصة تاريخية مشابهة المثل: “آخرة خدمة الغُز علقة”، ويعبر عن الندم بعد خدمة الظالمين، فكلمة “غُز” أصلها ” كلمة “الغزاة”، ويعود المثل إلى القرى المصرية التي كان يدخلها الغزاة ويسرقونها وينهبون خيراتها ويصادرون أموال الفلاحين الفقراء ويستولون على الغلال ويجبرون أهل البلد على العمل لديهم، فكان الأهالي يضطرون إلى التعاون معهم فلا يعطون الأهالي أجرتهم ولا يقابلون خدمتهم إلا بالنكران والضرب وسوء المعاملة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وسواء في الماضي أو الحاضر فالخونة في تاريخنا كثيرون، تدفعهم للخيانة ومناصرة الظالمين مصالح شخصية، فاليوم نذكر خونة الماضي وغدًا سيذكر التاريخ خونة اليوم، ذلك لأن تاريخ الخيانة والعمالة والانحياز للظلم قديم، عمره من عمر البشرية ولن يفنى إلا بفنائها، والأمثلة كثيرة تستعصي على الحصر.

اقرأ أيضاً: عن الواقع العربي أتحدث!

أبو رغال أول خائن في العرب

182591 471890917 1024x682 - من تاريخ الخيانة

في العصر الجاهلي عندما عزم أبرهة على هدم الكعبة المشرفة، خان “أبو رغال” الكعبة مقابل رشوة مالية، وأبو رغال هذا كان رجلًا من ثقيف أرسلوه مع أبرهة ليدله على البيت الحرام ليهدمه، فلما وصل مع أبرهة إلى موضع يسمى المغمس مات أبو رغال، فصارت العرب ترجم قبره بذلك الموضع، يقول الطبري في تاريخه: وما زال قبر “أبي رغال” الواقع بين مكة والطائف يرميه المارة بالحجارة، منذ ما قبل الإسلام وحتى اليوم عندما يقصدون مكة المكرمة، كما يرمي المسلمون الشيطان بالجمرات في موسم الحج من كل عام. وجدير بالذكر أن في هذه السنة ولد النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد مر صلى الله عليه وسلم بقبر “أبي رغال” فرجمه وأمر برجمه، فأصبحت سُنة عن رسول الله، كما هدد عمر بن الخطاب شاعر ثقيف: “غيلان بن سلمة” فقال له: “لئن لم ترجع لأرجمن قبرك كما يرجم قبر أبي رغال”.

وقبلها قال “جرير”:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إذا مات الفرزدق فارجموه   كما ترمون قبر أبي رغال

وقبله هجا شاعر النبوة حسان بن ثابت قبيلة ثقيف –قبل الإسلام– فقال:

إذا الثقفي فاخركم فقولوا     هلم نعد شأن أبي رغال

اقرأ عن: طائفة الحشاشين ومحاولة اغتيالهم صلاح الدين الأيوبي

في العصر العباسي

خان ابن العلقمي المسلمين، وهو وزير الخليفة العباسي المستعصم بالله، فكان ابن العلقمي يراسل القائد المغولي هولاكو في السر، يطلب منه أن يحتل بغداد، وأن يكون له –أي للعلقمي– دور في حكم العراق إذا سقطت بغداد، ولكي يسهل المهمة على هولاكو قام ذلك الخائن بتسريح تسعين ألف جندي، وأبقى على عشرة آلاف منهم لحماية بغداد بحجة توفير المال وعندما مهد الأمور، طلب من هولاكو أن يأتي إلى بغداد، فوصل هولاكو عند أسوار بغداد، وأقنع ابن العلقمي الخليفة أن يخرج بالهدايا الثمينة مع الأمراء والأعيان لمقابلة هولاكو فيفتدي نفسه وملكه بالمال، فخرج المستعصم في سبعمائة من رجاله فصاروا لقمة سائغة لهولاكو فقتلهم جميعًا بما فيهم الخليفة فسقطت الدولة العباسية، وقتل المغول نحو المليون من المسلمين ودمروا بغداد بالكامل وأهلكوا كتبها الثمينة، ونكث هولاكو بوعوده لابن العلقمي فلم يحصد الأخير من خيانته غير الندم وسرعان ما مات مقهورًا.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

بعدها تحالف بعض أمراء الدولة الفاطمية مع الصليبيين ضد الجيوش الإسلامية، بقيادة أسد الدين شيركوه وصلاح الدين الأيوبي، التي جاءت لصد الصليبين عن مصر، فعقد شاور مع الصليبيين معاهدة دفعت مصر بموجبها الجزية للجيوش الصليبية، التي عسكرت على أبواب القاهرة وبيدها مفاتيح العاصمة.

وفي فترة سقوط الدولة الفاطمية، كان صلاح الدين الأيوبي يحارب الصليبيين ليحرر القدس وفلسطين، فتحالف أركان الدولة الفاطمية المنهارة مرة أخرى مع الصليبيين ضد صلاح الدين، الذي ضبط مراسلات بين جوهر الخصي مؤتمن الخلافة الفاطمية وبين الغزاة حملة الصليب، فحاكمه وأعدمه وهزم جنده ومؤيديه، فما نال من الخيانة ومناصرة الأعداء إلا الهلاك وسوء المصير.

وللحديث بقية…

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ . شامخ الشندويلى

الشاعر والكاتب والسيناريست المعروف

مقالات ذات صلة