مقالات

عودة عينات المريخ!

الطريقة المذهلة التي تخطط بها ناسا إرسال عينات تربة المريخ إلى لأرض وإطلاق أول صاروخ فضائي على كوكب آخر!

على أرض تانية وتحت سماء تانية على بعد آلاف الكيلومترات عن كوكبنا الأزرق الجميل، موجود في قلب الصحراء المريخية الحمراء عربية آلية صغيرة، بتتحرك لوحدها ببطء وسكون في وسط الرياح الصامتة، عربية بيتحكموا فيها من على بعد رهيب عبر الفضاء، عشان تقدر تكمل في مهمتها الأعظم من نوعها في تاريخ استكشاف الفضاء.

العربية الآلية الصغيرة دي اسمها (Perseverance Rover)، وهدفها اللي بتشتغل عليه بقالها سنين طويلة جمع عينات من التربة المريخية لأغراض الاختبار والأبحاث، بس المشكلة بقى إن عملية إعادة العينات دي للأرض صعبة جدًا، أصل إزاي هتقدر العربية الصغيرة دي تاني تطلع اللي جواها للفضاء، في كوكب عليه جاذبية وغلاف جوي؟

وإزاي هتقدر توصل للعينات اللي جواها دي، وهي موجودة على بعد ملايين الكيلومترات عن سطح الأرض، بعيدًا في قلب الفضاء الواسع؟!

هو دا السؤال اللي كان محير الخبراء كلهم، واللي بقالهم سنين بيحاولوا يجاوبوا عليه، وعشان كدا في المدة الأخيرة بدأت وكالة الفضاء الأمريكية ناسا للتخطيط والتحضير لمهمة صعبة جدًا لدرجة الاستحالة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

مهمة هتحاول فيها لأول مرة في التاريخ البشري إطلاق صاروخ من على سطح كوكب آخر، عشان يرجع مرة تانية للأرض وجواه عينات جاية من عالم تاني!

حضر كوباية شايك الحلوة والنعناع، وتعالى بقى معايا النهاردا أحكيلك عن تفاصيل المهمة المنتظرة دي، عشان نعرف مع بعض كمية الصعوبات غير المسبوقة اللي هتواجهها، وإزاي هي تعتبر واحدة من أعظم المهمات الفضائية في تاريخ استكشاف الفضاء دون أدنى مبالغة.

يلا بينا

مهمة إعادة عينات المريخ

أول حاجة لازم تعرفها بخصوص المهمة دي إنها صعبة جدًا، صعبة لدرجة إنها اتغيرت أكتر من مرة من ساعة ما أعلنوا عنها قبل كدا، واتحطلها كذا تصميم لخطتها، لكن في السطور اللي جاية هكلمك على الخطة الأخيرة اللي عالجوا المشكلات السابقة فيها كلها.

شوف يا صديقي، الخطة باختصار إنهم هيطلقوا مركبة فضائية خاصة من هنا على الأرض، اسمها مركبة إعادة العينات أو (Sample Return Lander)، أو اختصارًا (SRL)، المركبة دي هتتوجه للمريخ لحد ما تهبط على سطحه، وبعدها المركبة دي هتندمج مع (Perseverance Rover) على السطح، وهتاخد منها العينات اللي جمعتها على مدار سنين من بداية مهمتها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وبعد ما تاخد العينات دي، هتتحمل بوسيلة آلية وأوتوماتيكية على متن صاروخ محمول جوه مركبة الـ(SRL)، اسمه مركبة الصعود من المريخ (Mars Ascent Vehicle)، وهيُطلق الصاروخ دا من فوق سطح المريخ لحد ما يخرج من غلافه الجوي، وهتعترضه مركبة تانية هتبقى في مدار الكوكب.

المركبة التانية دي اللي في المدار هيكون اسمها المركبة المدارية العائدة للأرض (Earth Return Orbiter)، وهتكون مهمتها الرئيسية إنها تاخد العينات اللي هتتحمل على الصاروخ دا، وترجع بيها مرة تانية للأرض!

اقرأ أيضاً: هل وجدت ناسا حياة ميكروبية على المريخ وقتلتها بالخطأ؟!

من المريخ إلى الأرض .. خطوة غير مسبوقة من ناسا

2024 4 15 11 29 33 142 - عودة عينات المريخ!

لو الموضوع وأنت بتسمعه حسيت إنه معقد، فالحقيقة إنه فعلًا شديد التعقيد، والسبب في دا بسيط، إنه عمرها ما حصلت في تاريخ استكشاف الفضاء إن يطلقوا صاروخ من على سطح كوكب تاني غير الأرض، ومفيش مهمة زي دي عملوها قبل كدا على الإطلاق!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هتسألني إزاي؟ أومال المهمات اللي بتروح تجيب عينات من على الكويكبات وترجع تاني دي إيه؟! هقولك إن الكويكبات يا صديقي مالهاش أغلفة جوية، وشبه مالهاش جاذبية تقريبًا، فأي دفعة بسيطة ممكن تخرج المركبات الفضائية من على سطحها للفضاء، ومش محتاجة صاروخ ولا وقود أصلًا، لكن المريخ كوكب كامل!

كوكب له غلاف جوي وجاذبية وتربة صخرية وترابية مليانة بالحصى والرمل، ومحتاج جهد كبير جدًا عشان تقدر تخرج منه مركبة فضائية، فما بالك بقى إنك هتبقى مضطر تطلق الصاروخ دا لا سلكيًا، وأنت هنا على الأرض، ومفيش أي مهندسين أو منصات بناء أو إطلاق، ومفيش أي حاجة تقدر تتحكم فيها يدويًا خالص، كل حاجة هتبقى شايفها من على شاشة، يعني الغلطة الواحدة هتهدد بدمار الصاروخ والمركبة كلها، وضياع مجهود سنين ومليارات الدولارات اللي اتصرفت على تصميم دا كله!

خليني بقى أحكيلك كدا سريعًا على المشكلات اللي هتواجه عملية الإطلاق دي، وإزاي علماء ومهندسين ناسا بيخططوا للتغلب عليها بطرق عبقرية عشان ينجزوا هدفهم المستحيل دا!

معضلة جلب عينات المريخ إلى اللأرض

بص يا سيدي، أول مشكلة هتواجههم في مهمة إطلاق الصاروخ اللي هيخرج من المريخ إن سطح الكوكب مفيهوش منصة إطلاق، ودي مهمة جدًا لأي عملية إطلاق فضائي، عشان تحمي الصاروخ من شظايا الرمال والحصى الموجودة على السطح، واللي هتطير بسرعات كبيرة جدًا تحت تأثير قوة الدفع، وممكن ترتد لجسم الصاروخ وتدمره أو على أقل تقدير تسببله أضرار بالغة!

ودا اللي حصل بالمناسبة مع عملية هبوط مركبة (Curiosity Rover) على المريخ، في يوم 5 أغسطس سنة 2012، لما في أثناء هبوطها استعملت محركات الدفع الصاروخي النفاثة بتاعتها ووجهتها للأسفل عشان تقلل سرعتها، ودا أدى لتناثر كميات كبيرة من الشظايا والحصى من على سطح الكوكب، وبعض الشظايا دي خبطت في جسم المركبة وسببت تلف في واحد من مستشعرات الرياح الخاصة بالمركبة!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

دا غير إن منصة الإطلاق اللي هيطلع منها الصاروخ، لازم تكون عبارة عن أرض مستوية تمامًا، عشان يقدروا يحددوا زاوية إطلاق الصاروخ من عليها بدقة، وميحصلش خطأ أو مشكلة تؤدي لإنه يميل في أثناء انطلاقه، فينفجر في الجو أو يقع على الأرض، أو يخرج من الغلاف الجوي لكن في منطقة تانية مختلفة عن اللي المفروض يروحها عشان يقابل المركبة المدارية!

وفوق دا كله، لازم بردو تكون في منصة قوية مصنوعة من معدن قابل لاحتمال درجات الحرارة دي، لأن من غيرها، ممكن محركات الدفع النفاثة للصاروخ تسبب حفرة كبيرة أسفل الصاروخ وهو بينطلق، والحفرة دي هتجمع جواها الحرارة الشديدة الناتجة من المحرك النفاث، وهتتسبب في توجهها للأعلى ناحية الصاروخ، وممكن تتسبب في حرقه أو تفجيره!

طب هيعملوا إيه بقى عشان يتغلبوا على المشكلات دي كلها؟!

اقرأ عن: أول مهمة فضائية حقيقية لتغيير مسار كويكب كامل!

خطط ناسا لمهمة عودة عينات المريخ

اللي هيعملوه باختصار إنهم هيستعملوا مركبة الهبوط (SRL) اللي هتنزل على السطح عشان تقابل (Perseverance Rover)، واللي هتكون شايلة جواها الصاروخ، المركبة دي المفروض هيبنوا فيها منصة إطلاق صغيرة قابلة لإعادة الاستعمال، بحيث إن بعد ما تتشحن العينات على الصاروخ أوتوماتيكيًا، الصاروخ يتجهز بحيث يكون فوق منصة الإطلاق دي ويُطلق من فوق سطحها!

ودا بالمناسبة اللي عمله العلماء قبل كدا في مهمات أبوللو في الستينيات والسبعينيات، اللي كانت بتستعمل مركبة الهبوط القمرية الأصلية منصة إطلاق فضائي بتنطلق من عليها المكوكات اللي كانت بتهبط على القمر وقتها، بس الفرق هنا إن القمر جاذبيته ضعيفة جدًا، ومكانش له غلاف جوي أصلًا، لكن المريخ جاذبيته أقوى طبعًا، وغلافه الجوي هيصعب من المهمة دي جدًا!

المشكلة إن فكرة إطلاق الصاروخ لسه بتواجهها صعوبات تانية، الصاروخ مثلًا عشان يطلع من الكوكب، لازم يكون مجهز بحيث إنه يكون موجه للسماء بزاوية قائمة، عشان يقدر يخرج من الغلاف الجوي، لكن المشكلة إنه لو صمموه ووضعوه بالشكل دا داخل كبسولة الهبوط، فهو مش هيدخل جواها أصلًا، وبناء عليه لازم يضعوه أفقيًا على جنبه!

وبسبب دا، فالمهندسين في الأول فكروا في إنهم يصمموا ماكينة آلية ترفع الصاروخ بعد ما ينتهوا من شحن العينات عليه، بحيث ترفعه على منصة الإطلاق بزاوية 90 درجة، بس الحل دا كان مستحيل، لأنه هيخلي الصاروخ تقيل جدًا، ومكانش هيقدر ياخد قوة الدفع الكافية اللي تخرجه من الكوكب.

طب والحل؟! الحل اللي وصلوا له يا صديقي كان عبقري جدًا!

المهمة المستحيلة

Multiple Robots NASA Mars Sample Return Mission 777x4371 1 - عودة عينات المريخ!

الحل إنهم صمموا نظام إطلاق مصغر جوه مركبة الهبوط نفسها، عامل زي ألعاب الملاهي كدا، النظام دا هيقذف الصاروخ بقوة في الهواء لفوق، كأنه بيتحدف للأعلى، وبعدين في وسط ما الصاروخ هيكون في الهوا، هتشتغل المحركات النفاثة بتاعته، وهيبدأ رحلته من وهو في قلب الهواء!

ولو خطر في دماغك إزاي هيقذفوا صاروخ كامل بالسهولة دي رغم إنه المفروض يبقى تقيل جدًا، فالحقيقة يا صديقي إن الصاروخ مش هيبقى تقيل ولا حاجة، لأن جاذبية المريخ ضعيفة مش زي جاذبية الأرض، وفي الوقت نفسه حمولته هتكون بسيطة جدًا، فبناء عليه وزنه مش هيحتاج قوة دفع كبيرة للتغلب على الجاذبية المريخية!

طبعًا في مشكلة جديدة هتظهر بعد دا كله، إنه عشان يصمموا الأنظمة الجديدة دي كلها، ويزودوا مركبة الهبوط بمنصة إطلاق كاملة، فدا هيتقل الحمولة جدًا، وهيخليهم يواجهوا مشكلات في إنزالها على السطح أصلًا، لإنها هتكون أتقل من المركبات السابقة بقدر كبير جدًا، ودا ممكن يؤدي لإنها متلحقش تهدي سرعتها في أثناء الهبوط، وتتدمر على سطح الكوكب.

بناء عليه عشان يحلوا المشكلة دي، هيضطروا يزودوا المحركات النفاثة اللي هتبقى في أسفل مركبة الهبوط، ويخلوها بدل ما هي 8 تبقى 12 محرك، وكمان مش هيخلوها متوجهة للأسفل بزاوية قايمة، عشان متعملش حفرة زي ما حصل مع مركبة (Curiosity) قبل كدا، وتتسبب في أضرار للمعدات اللي عليها، اللي هيعملوه إنهم هيخلوا المحركات متوجهة لخارج جسم المركبة بزاوية منفرجة، بحيث قوة الدفع بتاعتها متأثرش على منطقة الهبوط.

ودا بردو هيخلق مشكلة تانية: هيقلل من قوة الدفع النفاث اللي المفروض بتتحكم في تقليل سرعة الهبوط، ودا معناه إن المركبة هتسقط بسرعة أكبر وهتبقى في خطر أعلى، وعشان كدا، فالأرجل المعدنية الأربعة اللي هتهبط عليهم المركبة هيتصمموا من مواد جديدة خاصة، بحيث إنهم يتحملوا سرعة الهبوط دي، ويبقى فيهم قدر من المرونة بحيث إنهم يمتصوا الصدمة!

اقرأ أيضاً: الرياضيات والوعي الكوني

القيمة العلمية لمهمة عينات المريخ

طبعًا دا كله هيتكلف فلوس، وفلوس كتير، في الحقيقة بعض التقديرات اللي أجرتها لجان متخصصة جوه ناسا نفسها، بيقولوا إن التكلفة ممكن توصل لأكتر من 10 مليار دولار كاملين، ودا طبعًا هيضغط على ميزانية ناسا ضغط كبير، لكن هو يستاهل، لأن إعادة العينات دي للأرض وفحصها والبحث عن صور حياة ميكروسكوبية فيها، وتحليل تركيبها العضوي والكيميائي، أهم مهمة علمية في تاريخ الوكالة كلها تقريبًا!

الحقيقة إن المهمة دي من أولها لآخرها كدا شاهد على مدى عبقرية العلماء والمهندسين اللي بيشاركوا في تصميم حلول للمهمات المستحيلة دي، وقد إيه علم الهندسة الفضائية تطور في السنين اللي فاتت، لدرجة إننا وصلنا لأعتاب المستقبل حرفيًا.

وهي دي حلاوة العلم القادر دايمًا على تحقيق أي شيء مهما كانت مدى صعوبته!

مصادر:

https://www.digitaltrends.com/space/mars-sample-return-lander/

https://www.space.com/nasa-to-address-fiscal-concerns-mars-sample-return-mission

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. محمود علام

كاتب روائي وباحث، وسيناريست

مقالات ذات صلة