مقالات

الرياضيات والوعي الكوني

“الفاعلية غير المعقولة للرياضيات”، عبارة صاغها الفيزيائي المجري – الأمريكي يوجين فيجنر (Eugene Wigner 1902 – 1995) في مقالٍ له نُشر سنة 1960 تحت عنوان “الفاعلية غير المعقولة للرياضيات في العلوم الطبيعية” (The Unreasonable Effectiveness of Mathematics in the Natural Sciences)، وذهب فيه إلى أن البنية الرياضية للنظرية الفيزيائية غالبًا ما تفتح أمامنا الطريق نحو مزيدٍ من التقدم في تلك النظرية، وحتى للتنبؤات التجريبية، وأنه بمجرد التلاعب بالأرقام يمكننا وصف جميع أنواع الظواهر الطبيعية والتنبؤ بها بوضوح مذهل، بدءًا من حركات الكواكب، ومرورًا بالسلوك الغريب للجسيمات الأساسية، ووصولًا إلى عواقب التصادم بين ثقبين أسودين يبعدان مليارات السنين الضوئية!

العبارة تُشبه مقولة جاليليو (Galileo) المشهورة التي صاغ منطوقها على النحو التالي: “كتاب الطبيعة مكتوبٌ بلغة رياضية، وحروفه المثلثات والدوائر والأشكال الهندسية الأخرى، والتي من دونها يستحيل على الإنسان أن يفهم كلمة واحدة، ومن دون هذه اللغة، يهيم المرء على وجهه في متاهة مُظلمة”! لكن فيجنر يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فيُعلن أن التصورات الرياضية تتسم بقابليتها للتطبيق خارج نطاق السياق الذي طُوِّرت فيه في الأصل، وكتب استنادًا إلى خبرته: “من المهم الإشارة إلى أن الصياغة الرياضية لتجربة الفيزيائي غير المصقولة غالبًا، تؤدي في عددٍ غريب من الحالات إلى وصفٍ دقيق مثير للدهشة لفئةٍ كبيرةٍ من الظواهر”. ويستشهد في ذلك بالقانون العام للجاذبية، إذ استُخدِم هذا القانون في الأصل لنمذجة الأجسام المتساقطة بحرية على سطح الأرض، ثم وُسِّع –على أساس ما وصفه بالملاحظات الهزيلة للغاية– لنمذجة حركات الكواكب، وقد ثبت أنه دقيقٌ دقة تفوق كل التوقعات المعقولة. كذلك يستشهد فيجنر بمعادلات ماكسويل (Maxwell’s equations) التي استُخدِمت لنمذجة الظواهر الكهربائية والمغناطيسية الأولية المعروفة في منتصف القرن التاسع عشر، إذ تصف المعادلات أيضًا موجات الراديو، التي اكتشفها الفيزيائي البريطاني – الأمريكي ديفيد إدوارد هيوز (D. E. Hughes 1830 – 1900) سنة 1879، في وقت قريب من وفاة الفيزيائي الاسكتلندي جيمس كليرك ماكسويل (J. C. Maxwell 1831 – 1879). لذا يُلخص فيجنر حجته قائلًا: “الفائدة الهائلة للرياضيات في العلوم الطبيعية شيءٌ يقترب من الغموض، ولا يوجد تفسير عقلاني له!”.

لم يُناقش فيجنر البُعد الرياضي المؤثر لعلومٍ أخرى بخلاف الفيزياء، ومع ذلك لم تكن رؤيته بمنأى عن سهام النقد، لا سيما من بعض المتخصصين في علوم الحياة والإدراك والاقتصاد والتاريخ والأخلاق، إلخ، الذين عارضوه بمقولة اللا فاعلية غير المعقولة للرياضيات (The Unreasonable Ineffectiveness of Mathematics) في العلوم الأخرى، ومنهم مثلًا الرياضي السوفيتي – الأمريكي إسرائيل جيلفاند (Israel Gelfand 1913 – 2009)، المتخصص في الرياضيات الحيوية والبيولوجيا الجزيئية (Biomathematics and Molecular Biology)، وخبراء الاقتصاد إيرفينج فيشر (Irving Fisher 1867 – 1947)، كوماراسوامي فيلوبيلاي (Kumaraswamy (Vela) Velupillai من مواليد سنة 1947)، فرانك فابوزي (Frank Fabozzi من مواليد سنة 1948). ومع ذلك، يتساءل عددٌ من الباحثين الآن عما إذا كانت الرياضيات يمكن أن تنجح حيث فشل كل شيء آخر، لا سيما في دراسة الوعي البشري، والكشف عن أسراره الكونية، وتبيان مدى علاقته بالمادة.

لا شك أنه مطلبٌ كبير، ذلك أن السؤال عن إمكانية وكيفية قيام المادة بتجربة محسوسة أحد أكثر المشكلات الفلسفية والعلمية المُربكة التي تُواجهنا، ولذا كان من المتوقع أن يُثير أول نموذج رياضي مفصل للوعي جدلًا كبيرًا حول ما إذا كان بإمكانه إخبارنا بأي شيء معقول. وبينما يعمل علماء الرياضيات على صقل وتوسيع أدواتهم للنظر في أعماق أنفسنا بالنماذج الرياضية للوعي (Mathematical Models of Consciousness)، فإنهم يواجهون بعض الاستنتاجات المذهلة، ليس أقلها أننا إذا أردنا أن نحقق وصفًا دقيقًا للوعي، فقد نضطر إلى التخلص من حدسنا، وقبول الفرض القائل أن جميع أنواع المادة الجامدة يمكن أن تكون واعية، وربما الكون بأكمله، وهو ما وصفه الرياضي والفيزيائي الألماني يوهانس كلاينر (Johannes Kleiner) بمركز ميونيخ للفلسفة الرياضية في ألمانيا، بأنه قد يكون بداية ثورة علمية، مؤكدًا في حوار له مع الكاتب العلمي الإنجليزي مايكل بروكس (Michael Brooks)، ضمن مقال نُشر بمجلة نيو ساينتست (New Scientist) بتاريخ 4 مايو 2020 تحت عنوان: هل الكون واعٍ؟ (Is the Universe Conscious?)– أن التعريف الدقيق للوعي رياضيًا قد يعني أن الكون مليء بالتجربة الذاتية (Subjective Experience)!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

في دراسةٍ نُشرت بمجلة فيزيكال ريفيو (Physical Review E) بتاريخ الثامن من نوفمبر سنة 2016، تحت عنوان: “نحو آليات إحصائية للوعي: تعظيم عدد الروابط يرتبط بالإدراك الواعي” (Towards a Statistical Mechanics of Consciousness: Maximization of Number of Connections is Associated With Conscious Awareness)، وشارك فيها باحثون من فرنسا وكندا (رومان جيفارا إيرا Ramon Guevara Erra، دييجو إم ماتيوس Diego M. Mateos، ريتشارد وينبرج Richard Wennberg، خوسيه بيريز فيلاسكيز Jose L. Perez Velazquez)، توصل الفريق البحثي إلى أن الدماغ البشري قد تكون لديه كثرة من القواسم المشتركة مع الكون بما يفوق ما كنا نتخيله، وأن أدمغتنا ربما تُنتج الوعي أثرًا جانبيًا لزيادة الإنتروبيا (Entropy)، وهي عملية تحدث في جميع أنحاء الكون منذ الانفجار العظيم.

“الإنتروبيا” كلمة من أصل إغريقي تعني التغيير، كان الفيزيائي الألماني رودلف كلاوزيوس (Clausius‎‏ ‏‎.R‏ 1822-1888) أول من استخدمها مقياسًا لحالة الفوضى التي تتجه إليها الجسيمات المادية في نظام حراري مغلق. ووفقًا للقانون الثاني للديناميكا الحرارية، القائل إنه “من المستحيل على آلة تعمل بصورة مستقلة –دون عونٍ من خارجها– أن تنقل الحرارة من جسمٍ ما إلى آخر أعلى درجة”، أو إن “الحرارة لا تنتقل بصورة عفوية من مكان بارد إلى مكان حار”، فإن إنتروبيا النظام لا بد وأن تميل دائمًا إلى الزيادة، فعلى سبيل المثال، لو كان لدينا قِدرًا من القهوة وقِدرًا من اللبن، فهنا يكون لدينا درجة من النظام من حيث إن هذه القهوة وذلك اللبن كل منهما منفصل عن الآخر. فإذا صببنا الآن شيئًا من كل منهما في فنجان وحركنا المزيج فإننا نحصل على قهوة بيضاء. ولا سبيل إلى أن ينفصل هذا المزيج بغتة ليعود إلى مكونيه الأساسيين. وعلى هذا يمكن القول إن أية عملية تتزايد فيها إنتروبيا النظام تكون عملية لا ارتدادية، وكلما كان تزايد الإنتروبيا كبيرًا كلما كانت درجة اللا ارتدادية كبيرة، وذلك نظرًا للحركة العشوائية اللا منتظمة واللا محكومة للجزيئات المادية اللا متناهية العدد، والتي تستلزم لحساب مواضعها المتغيرة بشكلٍ عشوائي عددًا لا قبل لنا به من المعادلات. ولهذا السبب نقل الفيزيائي النمساوي لودفيج بولتسمان (L. Poltzmann 1844 – 1906)، مفهوم الإنتروبيا إلى مجال الاحتمال الإحصائي، إذ صارت زيادة الإنتروبيا تعني إمكانية انتقال النظام من حالةٍ أقل احتمالًا إلى حالةٍ أكثر احتمالًا.

على هذا النحو، يعتقد عديدٌ من الفيزيائيين أن الكون ذاته في حالة ثابتة من الإنتروبيا المتزايدة، فعندما حدث الانفجار العظيم، كان الكون في حالة منخفضة من الإنتروبيا، ثم اتجه –وما زال يتجه– إلى نظام إنتروبيا أعلى مع استمرار استنزاف الطاقة، فلو تركنا مثلًا قدحًا من الشاي المغلي في غرفةٍ مُغلقة، فلا بد وأن يستمر الاستنزاف الذاتي لحرارة القدح حتى تصل الغرفة بكافة أنحائها ومشتملاتها إلى درجة حرارة واحدة، أو إلى ما يُعرف بحالة الاتزان الحراري (Thermal Equilibrium)، أما استجماع هذه الحرارة من جو الغرفة وارتدادها ذاتيًا إلى القدح مرة أخرى فأمر مستحيل تمامًا. كذلك الحال لو استبدلنا الكون كله بالغرفة المغلقة، إذ يصل الكون في يوم ما إلى ما يُسمى بحالة الموت الحراري (Heat Death‎)، إذ تكون كل أشكال الطاقة قد تحولت إلى حرارة وكل حرارة قد وُزعت على الكون بالقسطاس. وهذا يعني في النهاية أنه ما من شُغلٍ سيكون مستطاعًا. ووفقًا للدراسة المذكورة أعلاه، قد يمر الدماغ البشري بشيء مشابه، بحيث يكون الوعي أحد الآثار الجانبية لهذه العملية!

لمعرفة كيف يمكن تطبيق مفهوم الإنتروبيا على الدماغ البشري، قام الباحثون بتحليل حالة ومقدار النظام في أدمغتنا عندما نكون واعين، مقارنةً بالوقت الذي نغيب فيه عن الوعي، وذلك بنمذجة شبكات الخلايا العصبية (Networks of Neurons) في أدمغة تسعة مشاركين، سبعة منهم يعانون من الصرع (Epilepsy)، ثم نظروا فيما إذا كانت الخلايا العصبية تتأرجح في الطور مع بعضها، لأن هذا يمكن أن يكشف عما إذا كانت خلايا الدماغ مرتبطة أم لا، وبمقارنة الملاحظات من لحظة استيقاظ المرضى من نومهم، وفي الأوقات التي كان فيها مرضى الصرع يعانون من نوبات، وجد الباحثون أن أدمغة المشاركين تظهر إنتروبيا أعلى عندما تكون واعية تمامًا، وكتب الفريق البحثي: “تتميز حالات اليقظة الطبيعية بأكبر عدد من التكوينات الممكنة للتفاعلات بين شبكات الدماغ، مما يمثل أعلى قيم الإنتروبيا. لذلك، يكون محتوى المعلومات أكبر في الشبكة المرتبطة بالحالات الواعية، مما يشير إلى أن الوعي يمكن أن يكون نتيجة لتحسين معالجة المعلومات”.

من المؤكد أن ما توصل إليه الفريق البحثي يتسم بالإثارة، بل وقد يُؤدي إلى مزيدٍ من البحث لاستكشاف الصلة المحتملة بين الوعي البشري والإنتروبيا، لكن النتائج ما زالت بعيدة كل البعد عن أن تكون قاطعة، إذ كان حجم عينة الدراسة صغيرًا بشكل استثنائي، وثمة حاجة إلى تكرار التجربة على مجموعات أكبر وأنواع مختلفة من حالات الدماغ. ومع ذلك، تُقدم الدراسة تفسيرًا رائعًا للوعي البشري، وقد يكون هذا التفسير بمثابة الدليل الذي يساعدنا في النهاية على فهم ظاهرة الوعي الغريبة والمُعقدة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

في الإطار ذاته، يركز الرياضي والفيزيائي الألماني يوهانس كلاينر وزملاؤه في مركز ميونيخ للفلسفة الرياضية على نظرية المعلومات المتكاملة للوعي (Integrated Information Theory of consciousness)، وهي واحدة من أكثر نظريات الوعي شهرة اليوم، ويمكن أن ننظر إليها أنها من أشكال نزعة النفسانية الشاملة (Panpsychism). ويمكن تعريف هذه الأخيرة بصفة عامة بأنها جزءٌ من الاتجاه الكوبرنيكي في الفلسفة الغربية: أعني فكرة أن الأرض ليست مركز الكون، وأن الوعي ليس حكرًا على البشر، وإن بلغوا به منزلةً تؤهلهم لإعمار الأرض، بل قد يكون الوعي سمة لكافة الموجودات، بما في ذلك المادة التي نظنها جامدة! ومع أن ثمة إصدارات متنوعة لنزعة النفسانية الشاملة، إلا أن النسخة الأكثر جاذبية منها تلك المعروفة باسم “النفسانية الشاملة التأسيسية” (Constitutive Panpsychism)، وتنص ببساطة على أن أي مادة لها وعي أو عقل مرتبط بها، فحيثما وُجدت المادة وُجد عقل، والعكس صحيح، بمعنى أنه حيثما وُجد عقل وُجدت المادة! وكما ذهب بعض الفلاسفة المعاصرين مثل ألفريد نورث وايتهيد (Alfred North Whitehead 1861 – 1947)، وديفيد راي جريفين (David Ray Griffin 1939 – 2022)، وجالين ستراوسون (Galen Strawson من مواليد سنة 1952)، وغيرهم، فإن كل مادة لديها بعض القدرة على الشعور، وإن كان شعورًا بدائيًا للغاية في معظم تكوينات المادة.

على نحوٍ أكثر تفصيلًا، ينظر القائلون بالنفسانية الشاملة إلى مراتب الموجودات المختلفة في الطبيعة على حدٍ سواء، دون التمييز بخطٍ واضح بين العقل واللا عقل. وقد تساءل الفيلسوف الأمريكي توماس ناجل (Thomas Nagel) سنة 1974 عن شعور المرء إذا ما كان خُفاشًا (What is it Like to Be a Bat?)، يطير ويتنقل بالصدى. بالطبع لا يُمكننا أن نختبر هذا الشعور بأي قدرٍ من اليقين، لكن يُمكننا أن نستنتج بشكلٍ معقول، استنادًا إلى التماثلات الجينية بين جميع الثدييات والبشر، وملاحظاتنا لسلوك الخفافيش، أنها تتمتع بحياة داخلية غنية. وبالمنطق ذاته، يمكننا أن ننظر بثبات إلى أشكال السلوك الأقل تعقيدًا التي تسمح لنا باستنتاج نوع من العقل المرتبط بجميع أنواع المادة بشكل معقول، بما في ذلك الإلكترون الذي نظنه تافهًا!

من جهة أخرى، أدرك عديدٌ من علماء الأحياء والفلاسفة أنه لا يوجد خط صارم للفصل بين الأحياء والجمادات، فذهب عالم الأحياء والوراثة البريطاني جون هالدين (J. B. S. Haldane 1892 – 1964)، على سبيل المثال، إلى أنه لا يوجد خط فاصل واضح بين ما هو على قيد الحياة وما هو ليس كذلك، وكتب قائلًا: “لا نجد دليلًا واضحًا على الحياة أو العقل فيما يسمى بالمادة الخاملة، لكن إذا كانت وجهة النظر العلمية صحيحة، فسوف نجد الحياة في نهاية المطاف –على الأقل في شكل بدائي– في كافة أرجاء الكون”. كذلك صرَّح الفيزيائي الدنماركي نيلز بور (Niels Bohr 1885 – 1962)، الذي ترك بصمة بارزة في فيزياء الكوانتم، قائلًا: “تعريفات الحياة والميكانيكا ذاتها في النهاية مسألة ملائمة، إن مسألة وجود قيود للفيزياء في علم الأحياء ستفقد أي معنى إذا قمنا، بدلًا من التمييز بين الكائنات الحية وغير الحية، بتوسيع فكرة الحياة لتشمل جميع الظواهر الطبيعية”. وفي الآونة الأخيرة، تساءل عالم الأحياء الفلكية بجامعة كولورادو الأمريكية بروس جاكوسكي (Bruce Jakosky من مواليد سنة 1955)، والذي عمل مع وكالة ناسا (NASA) في البحث عن أي مظاهر للحياة خارج كوكب الأرض، قائلًا بشكل خطابي: “هل كانت ثمة لحظة مميزة عندما انتقلت الأرض من انعدام الحياة إلى الحياة، كما لو أن أحدهم قد ضغط على مفتاح كهربائي؟ الجواب: ربما لا!”.

أما عالمة الفيزياء النظرية الألمانية سابين هوسينفيلدر (Sabine Hossenfelder من مواليد سنة 1976)، مؤلفة كتاب “ضائع في الرياضيات: كيف يؤدي الجمال إلى ضلال الفيزياء” (Lost in Math: How Beauty Leads Physics Astray 2018)، فقد اتخذت موقفًا مخالفًا، وذهبت في مقال لها تحت عنوان “الإلكترونات لا تفكر” (Electrons Don’t Think) إلى أن “الإلكترونات غير واعية، ولا أية جسيمات أخرى. هذا غير متوافق مع البيانات، ولئن كنت تريد أن يكون الجسيم واعيًا، فيجب أن يكون الحد الأدنى من توقعاتك أن الجسيم يمكن أن يتغير. من الصعب أن تكون لديك حياة داخلية بفكرةٍ واحدٍ فقط. ولو كانت للإلكترونات أفكار، لكنا قد رأينا ذلك منذ فترة طويلة في تصادم الجسيمات، لأنه سيغير عدد الجسيمات الناتجة عن التصادم”.

لتبسيط الأمر، دعنا نقول مع “هوسينفيلدر” أن لُغز الوعي لا يتعلق فقط بقدرتنا على التفكير، بل بقدرتنا على تجربة الأشياء: العواطف والاهتمامات والجمال وما إلى ذلك. وإذ إن كل ما لدينا داخل الدماغ هو المادة (الجسيمات الأولية)، فمن الواضح أننا نستطيع حوسبة هذه المادة، لكن هل يمكن لأي حاسوب أن يشعر بالفعل بالألم، أو المتعة، أو أي شيء آخر؟ ربما أشار فيلسوف مثل وايتهد إلى أن جميع الكيانات الفعلية، بما في ذلك الإلكترونات والذرات والجزيئات، بمثابة “قطرات للخبرة” (Drops of Experience)، بمعنى أنها تتمتع على الأقل بشيء من الخبرة، لكن يصعب –على حد تعبير فيلسوف العقل الاسترالي ديفيد تشالمرز (David Chalmers من مواليد سنة 1966)– نسبة الوعي إلى المادة، لأن المشكلة الحقيقية للوعي ليست في التفكير العقلاني، لكن ما يُعرف باسم “الكواليا” (Qualia): كيف يمكن لنظام فيزيائي أن يشعر بالأحاسيس أو يختبر الأشياء. من الواضح أن بإمكاننا برمجة الحاسوب لكي يصرخ مثلًا، لكن من المستحيل جعله يشعر بالألم بالفعل، تلك مشكلة الوعي الصعبة، وإن كانت تطوراتها البحثية الجامعة بين المادة والوعي تدفعنا إلى تأمل قول الخالق عز وجل: “وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ” [الإسراء: 44].

اضغط على الاعلان لو أعجبك

مقالات ذات صلة:

اللغز الغريب لـ”باي”!

الأبعاد المنطقية للذكاء الاصطناعي

جسور التواصل بين الفلسفة والكيمياء

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية

مقالات ذات صلة