مقالات

من تاريخ الخيانة .. الجزء الثالث

كانت خيانات الحكام المسلمين الشهيرة لبلادهم وشعوبهم على مر التاريخ الإسلامي تحدث بالذات عندما تسوء العلاقة بين الحاكم وشعبه ويسودها الخوف المتبادل بين الطرفين، بحيث يتوجس الحاكم من مصيره إذا انقلب الناس عليه غدًا أو بعد غد، فيروح يفكر في السلامة لنفسه والنجاة من عقاب شعبه مهما كان الثمن، وهنا يبدأ في البحث عن ركن شديد يأوي إليه ليسنده إذا سقط، ولن يتلقفه في هذه الحال غالبًا إلا قوة أجنبية تناصب بلاده العداء، وذلك في مقابل مهادنتها والخضوع لشروطها، لأنه قد صار الآن في شدة الخوف لا على سلطانه فقط بل وعلى رقبته، وهكذا تبدأ في الظهور عليه تلك الأعراض الشهيرة المثيرة للعجب من ملاينة الغريب ومعاداة القريب، أو كما قال الشاعر عمران بن حطان:

أَسدٌ عَلَيَّ وَفي الحُروبِ نَعامَةٌ            رَبداءُ تجفلُ مِن صَفيرِ الصافِرِ

هَلّا بَرَزتَ إِلى غَزالَةَ في الوَغى            بَل كانَ قَلبُكَ في جَناحَي طائِرِ

صدعت غَزالَةُ قَلبهُ بِفَوارِسٍ            تَرَكتَ مَنابِرَهُ كَأَمسِ الدابِرِ

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أَلقِ السِلاحَ وَخُذ وِشاحي مُعصِرٍ       وَاعمَد لِمَنزِلَةِ الجَبانِ الكافِرِ

سقوط سميساط

لقد حاول بعضهم على مر العصور تبرير الخيانة السياسية للحكام المسلمين، والتماس العذر لهذا الحاكم المسلم أو ذاك عندما سلَّم بلاده طواعية للمغول أو الصليبيين أو غيرهم، وذلك بحجة أنه لو لم يفعل لكانت العواقب أشد وخامة على ديار الإسلام، أو عندما تخلى الحاكم عن المسلمين وامتنع عن نجدة غيره من حكام المسلمين وهو يحارب الأعداء، ثم راح يتعلل بالعجز وقلة الحيلة وذلك محض نفاق، فليس للخيانة مسمى غير الخيانة، كما أن خيانة الدين والأمة بوجه خاص يصعب تبريرها، فالخائن هو خائن لأنه خائن بطبعه وليس لأنه أجبر على الخيانة، ويكفي أن نضرب مثلًا بخيانة حاكم مسلم تطوع بتسليم بلاده للأعداء طواعية لقاء ثمن زهيد للغاية.

يقول المؤرخ ابن أبي الدم الحموي في كتابه “المختصر في تاريخ الإسلام”: ودخلت سنة تسعين وأربعمائة، وفيها فتحت الفرنج أنطاكية وسُميساط.

لكن بلدوين –يقصد الأمير الصليبي بلدوين الأول– قبل أن يشرع في حصار سُمَيْساط، تسلم رسالة من حاكم المدينة السلجوقي المسلم، وكان اسمه “بولدق” يعرض عليه فيها أن يسلمه سُمَيْساط مقابل عشرة آلاف دينار ذهبي، فوافقَ الأمير الصليبي على هذا العرض فورًا ورآه فرصة لا تعوض، وهكذا سقطت سُميساط بسبب خيانة ذلك الأمير الذي باعها بثمن بخس وترك شعبها المسلم مستباحًا للنصارى يقتلونه أو يأسرونه ويسبون نساءه مقابل ثمن زهيد أخذه لنفسه وهرب.

سقوط أنطاكية

main qimg aeb24aa8a99546c210527949e17001ba lq - من تاريخ الخيانة .. الجزء الثالث

اضغط على الاعلان لو أعجبك

في العام نفسه، سقطت أنطاكية –المدينة الشامية الساحلية الكبرى– في أيدي الصليبيين بخيانة أخرى، فقد حاصرها الصليبيون في حملتهم الأولى حين كان يحكمها الأمير السلجوقي ياجي سيان تابعًا للسلطان السلجوقي مَلِكْشاه.

كان الصليبيون قد أقاموا بالقرب منها قلعة لإحكام محاصرتها فاستمر حصارهم لها تسعة أشهر، وكان الأمير السلجوقي قد عهد إلى قائد أرمني مسلم بإدارة المدينة وحراسة أبراجها، فخان القائد المسلم المدينة وسلمها إلى الصليبيين بأن فتح لهم بابًا في القلعة يدخلون منه مقابل أن يدفعوا له مبلغًا من المال ويضمنوا سلامته، وقد ذكر المؤرخ عز الدين بن الأثير هذه القصة فقال: “فلما طال مُقام الفرنج على أنطاكية راسلوا أحد المستحفَظين للأبراج، واسمه رُوزبة، وبذلوا له مالًا وإقطاعًا، وكان يتولى حفظ برجٍ مبني على شباك في الوادي ففتح لهم الشباك ليدخلوا منه، وسقطت المدينة بسبب هذه الخيانة، أما أمير المدينة فبدلًا من المقاومة هرب منها مع نفر من الناس وترك بها أهله وماله، ثم أنه في أثناء الطريق تفكر فيما فعل فندم على ما فرط في حق المدينة وشعبها وحق أهله، فأغشي عليه من الغم وسقط عن فرسه، فذهب أصحابه عنه وتركوه مرميًا على الطريق حتى مر راعي غنم فرآه فقطع رأسه وذهب به إلى ملك الفرنجة طمعًا في الجائزة”.

أثار سقوط أنطاكية الذعر في المدن الإسلامية القريبة، فهرب من كان بها من المسلمين فاحتلها الأرمن بما فيها بغير قتال، ولقد مثل سقوط أنطاكية تحولًا تاريخيًا في الخريطة السياسية العالمية لا يقل أهمية من الناحية المعنوية والاستراتيجية عن سقوط القدس، إذ كانت أنطاكية وقتها أهم ثالث مدينة في العالم.

وللحديث بقية…

مقالات ذات صلة:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

شيخ العرب همام ومشروع استقلال منسي

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ . شامخ الشندويلى

الشاعر والكاتب والسيناريست المعروف

مقالات ذات صلة