مقالات

من تاريخ الخيانة .. الجزء الرابع

الناس والعلماء في مواجهة الخيانة

إذا كنا حتى الآن نتحدث بفخر عن انتصارات سيف الدين قطز والظاهر بيبرس وعماد الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي والملك الصالح نجم الدين أيوب وغيرهم على المغول والصليبيين، فما زلنا أيضًا نتحدث بطعم المر عن خيانات غيرهم من الحكام للدين والأمة والأمانة، وتسليمهم بلاد المسلمين للأعداء في صفقات ملوثة خوفًا على كرسي الحكم تارةً، أو للاستقواء بالأعداء ضد حكام مسلمين آخرين ينافسونهم في الملك والتوسع كل على حساب الآخر تارة أخرى، أو حتى من أجل الاستقواء بالأعداء على شعوبهم، فتاريخ الحكام المسلمين لم يكن على نسق واحد ولم تكن الصفحة دائمًا بيضاء.

دور العلماء والرأي العام في الجهاد ضد الصليبيين

لكن بقيادة الفقهاء والعلماء كان الناس أو الرأي العام بديار الإسلام دائمًا مستنكرًا لتخاذل حكامه المنبطحين أمام المد الصليبي في بلادهم، فحاولوا بقدر ما استطاعوا أن يرفعوا رايات الجهاد في وجه أعداء الإسلام وفي وجه الخونة من الحكام في الوقت نفسه، ففي العراق مقر الخلافة على سبيل المثال، حدث عام 504هـ أن قرر جماعة من أهل بغداد مواطنين وعلماء الخروج إلى الشام للجهاد والقتال، لكن اضطر كثير منهم إلى الرجوع عندما علموا بكثرة الأعداء، ولا يمكننا بالطبع إلقاء اللوم على المواطنين العزل في مواجهة الجيوش المدججة بالسلاح والخيل والعتاد والفرسان المدربين، ثم ثارت الجماهير في بغداد لنُصرة أهل الشام وبيت المقدس المنكوبين بالغزو الصليبي، ولقد حدث هذا في وقت كان الخليفة فيه يتجهز للزواج من أخت السلطان السلجوقي محمد بن ملكشاه، فطلب الخليفة من السلطان صراحة أن يؤدب الجماهير على هذه الاحتجاجات، في واقعة يتجلى فيها الفرق بين صدق مشاعر الجماهير واستهتار الحكام وتخاذلهم في الدفاع عن ديار الإسلام.

يقول المؤرخ ابن القلانسي (المتوفى عام 555هـ): “حضر رجل من الأشراف الهاشميين من أهل حلب وجماعة من الصوفية والتجار والفقهاء إلى جامع السلطان في بغداد فاستغاثوا وأنزلوا الخطيب وكسروا المنبر، وصاحوا وبكوا لما لحق الإسلام من الإفرنج من قتل للرجال وسبي للنساء والأطفال ومنع الناس للصلاة، في حين راح خدم السلطان من أجل تهدئتهم يقدمون إليهم وعوده من إرسال العساكر والانتصار للإسلام من الإفرنج والكفار، ثم عاودت الجماهير الاحتجاجات في الجمعة التالية وحاولت المسير إلى جامع الخليفة، وفعلوا مثل ذلك من كثرة البكاء والضجيج والاستغاثة والنحيب، ووصلت من أصفهان الخاتون بنت ملكشاه أخت السلطان محمد لتزف إلى الخليفة، واتفق وصولها مع هذه الاستغاثة فتكدر ما كان صافيًا من الحال والسرور بمقدمها، وأنكر الخليفة المستظهر بالله أمير المؤمنين ما جرى وعزم على طلب من كان الأصل والسبب ليوقع به المكروه، فمنعه السلطان السلجوقي من ذلك وعذر الناس فيما فعلوه، وأوعز إلى الأمراء والمقدمين بالعودة إلى أعمالهم والتأهب للمسير إلى جهاد أعداء الله الكفار”.

اقرأ أيضاً: العلماء ورثة الأنبياء

اضغط على الاعلان لو أعجبك

دور السلاجقة في الحروب الصليبية

37 - من تاريخ الخيانة .. الجزء الرابع

بالفعل، وأمام هذا السخط والضغط الشعبي لم يجد السلطان السلجوقي بُدًا من تسيير حملة عسكرية لتهدئة خواطر الجماهير الغاضبة، قاد هذه الحملة كبار أمرائه، وساروا إلى بلدة سنجار ففتحوا حصونًا عدة للفرنج، وقتلوا من بها منهم وحاصروا مدينة “الرها” مدة ثم رحلوا عنها من غير أن يملكوها، فرغم العُدة والعتاد فإن أمراء حلب ودمشق لم يأمنوا للقادة السلاجقة، وكالمعتاد دب الخلاف بينهم، ففشلت الحملة ورجعت على أعقابها في العام التالي بكل أسف.

من ناحية أخرى، كان الخلفية وسلطان السلاجقة وكبار الحاشية من الجانبين يحتفلون بالزفاف الملكي الأسطوري، بمبالعة شديدة في الترف الذي زاد من سخط الناس، فقد “قدمت خاتون بنت ملكشاه زوجة الخليفة إلى بغداد فنزلت في دار أخيها السلطان محمد، ثم حُمل جهازها على مائة واثنين وستين جملًا وسبعة وعشرين بغلًا وزُينت بغداد لقدومها، وكان دخولها على الخليفة في الليلة العاشرة من رمضان”، فكان زفافها إليه مثل ليلة من ليالي ألف ليلة وليلة، مما ضاعف من استفزاز الجماهير الغاضبة التي تأكدت أنها في واد وحكامها في واد آخر، وأن الخليفة المستظهر بالله أبعد ما يكون عن التعامل الواقعي مع الأحداث الخطيرة التي تهدد الإسلام والمسلمين.

اقرأ أيضاً: دور المقاومة الشعبية في التصدي للغاصبين

معركة طبرية 507هـ

من جانبهم أعلن الفقهاء وعلماء المسلمين رفضهم لما يجري من التقاعس والخذلان، وراحوا يطالبون بمواصلة الجهاد ضد الصليبيين وتحرير بيت المقدس وديار الإسلام التي احتلوها، واستمرت تحركاتهم في بث الحمية في نفوس القادة السلاجقة ممن توسّموا فيهم الشهامة، وخصوصًا أمراء الشام وشمال العراق الذين اتحدوا أخيرًا في مواجهة الصليبيين، وبالفعل تحقق لهم النصر في معركة مهمة سنة 507هـ بالقرب من بحيرة طبرية بفلسطين بقيادة القائد الفذ شرف الدَّولة “موْدُود بن التونتكِين” أمير الموصل، وهو من التُّركمان وكان عالمًا مُجاهدًا، قال فيه ابن الأثير: “وكان خيّرًا، عادلًا، كثيرَ الخير”، وأنه أميرٌ نبيلٌ ومجاهدٌ عظيمٌ، ساسَ رعيّته بالعدلِ والإنصافِ والتزمَ بتعاليم الدّين الإسلامي مع أمر بالمعروفِ ونهيٍ عن المنكر، حتى شاع الخيرُ في كل مكان من أرجاء المُوصل، فأحبّته الرّعية، وامتلك بعدله القلوبَ والعُقول، ثم رسّخ في قلوب رعيتهِ حبّ الجهاد، يقول ابن كثير: “كانت واقعة عظيمة بين المسلمين والفرنج في أرض طبرية، فهزموا الفرنج هزيمة فاضحة، وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وغنموا منهم أموالًا جزيلة، وملكوا تلك النواحي كلها”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لم يسلم حتى ملكُهم بعدوين، فقد وقع في الأسر وتنكَّر كيلا يعرِفَه المسلمون، فأخذ منه سلاحه، وأطلق دون أن يعرفه أحد، كما غرِق قسم كبير من جيش الإفرنج في البحيرة وفي نهر الأردن، وبعد هذه الهزيمة المنكرة وصل للصليبيين مدد من أنطاكية وطرابلس، فجمعوا جموعهم وعادوا للحرب، فأحاط بهم المسلمون ورموهم بالنشاب، ومن المعروف عن المسلمين في ذلك الزمن شدة الرمي.

استمر الحال نحو الشهر وهم محصورون في تل لا يجرؤون على النزول، ثم انسحب المسلمون يُغيرون على المدن التي احتلها الصليبيون فيقتلون ويأسرون من الجنود فيما بين عكا إلى القدس.

ولقد حملت هذه الجولة المظفرة من الجهاد ضد الصليبيين دلالة تاريخية مهمة وعبرة لمن يعتبر على مر الزمان، فالجماهير رغم عجزها في مواجهة جيوش الأعداء المدججة بالسلاح ظلت تملك في يدها ما لا يقل قوة وتأثيرًا عن الجيوش الجرارة، تملك “ورقة الضغط الجماهيري” التي نراها في هذه الواقعة قد نجحت بامتياز في تحريك الجيوش وتغيير الواقع على الأرض.

وللحديث بقية…

مقالات ذات صلة:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ . شامخ الشندويلى

الشاعر والكاتب والسيناريست المعروف

مقالات ذات صلة