فن وأدب - مقالاتمقالات

يوسف إدريس .. ظل ثقيل أم موهبة لاذعة؟ – الجزء الأول

حين غاب يوسف إدريس عن دنيانا في أول أغسطس من عام 1991 كانت أسطورته قد اكتملت، فما كُتب في تأبينه ورثائه والحزن لرحيله كان ملء الأسماع والأبصار والأذهان، واستمر أيامًا بل أسابيع.

كلما تجددت ذكرى الرحيل أو حتى الميلاد انفتحت أبواب الأسى ونوافذه على مصاريعها، وكلها حافلة بتمجيد كان قادرًا طيلة الوقت أن يجرف في طريقه كل من وقفوا في الضفة الأخرى، أو ساروا في الاتجاه المعاكس، وعلى رأسهم الناقد الكبير فاروق عبد القادر، الذي امتلك ذات يوم جرأة يحسد عليها وقال في كتابه “البحث عن اليقين المراوغ: قراءة في قصص يوسف إدريس” عبارته الصادمة: “لن يبقى من يوسف إدريس سوى خمس قصص قصيرة”!

بينما امتلك آخرون شجاعة أقل واكتفوا بتكرار هذا القول، متكئين على القاعدة التي تقول: “ناقل الكفر ليس بكافر”، أو مسوا إدريس وقصصه ومسرحياته ومواقفه السياسية والفكرية مسًا رقيقًا رفيقًا، لم يصنع جرحًا غائرًا في ذاكرة الناس حيال رجل وُصف بأنه “تشيكوف العرب” أو “أمير القصة القصيرة”.

كتاب ضحايا يوسف إدريس وعصره

لكن الكاتب والشاعر المهتم بالتأريخ للأدب الأستاذ شعبان يوسف، كان الثاني بعد فاروق عبد القادر الذي تحمل مشقة النيل من هالة يوسف إدريس، أو إخضاعها للفحص والدرس، رغم أنه لم يتفق تمامًا مع ما ذهب إليه عبد القادر، ووجد أن الحصافة والكياسة والإنصاف تفرض عليه أن يقول صراحة في ثنايا كتابه الذي حمل عنوان “ضحايا يوسف إدريس وعصره” قولًا واضحًا في حق الرجل.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إذ نجده يقول دون مواربة، بعد تناوله الأسباب الخفية والظاهرة التي دفعت إدريس إلى المقدمة، وصنعت سطوته وجعلته في دائرة الضوء المبهر زمنًا طويلًا: “وأؤكد بأن كل هذه الأمور لا تنقص من تقديري لموهبة يوسف إدريس العاصفة في القصة القصيرة على وجه الخصوص، ولا تنقص من صدقيته كذلك، فهو كان يفعل كل ذلك منطلقًا من شعوره الطاغي بذاته الفنية والأدبية والثقافية، ذلك الشعور الذي جعله لا يرى أحدًا قبله أو بعده أو أمامه، وراح يطيح بكل من سبقوه، وقال بأنه أول من كتب القصة المصرية، وهكذا ألغى جيلين أو ثلاثة”.

جيل القصة القصيرة الأول

20174820215879220 - يوسف إدريس .. ظل ثقيل أم موهبة لاذعة؟ - الجزء الأول

يعرض شعبان يوسف بالتفصيل أسماء شخصيات من هذه الأجيال التي توارت تحت ظل يوسف إدريس الثقيل، ليظل بعضهم في خلفية المشهد إلى الآن، ويتحقق بعضهم بعد رحيله، أو ينال إبداعهم الأدبي الاعتراف.

نقرأ في الكتاب فصولًا عن أبو المعاطي أبو النجا ومحمد سالم وعبد المعطي المسيري ومحمد صدقي، مثالًا للحالة الأولى. أما الحالة الثانية فيمثلها إدوارد الخراط، الذي نال حظه من الأضواء في العقدين الأخيرين، ولطفي الخولي الذي ترك كتابة القصة ليتحقق كاتبًا سياسيًا شهيرًا ومؤثرًا، والدكتور مصطفى محمود الذي توقف عن كتابة القصص والمسرحيات وانشغل بالمسائل العلمية والدينية، فجعله برنامج “العلم والإيمان”، الذي كان ذائع الصيت في مصر في خلال ثمانينيات القرن العشرين، أكثر حضورًا في أذهان عموم الناس حتى من يوسف إدريس نفسه.

ثم يذكر الكاتب بعض الأسماء التي يرى أنها تأثرت سلبًا بوجود يوسف إدريس من أبناء جيله، مثل يوسف الشاروني وعبد الله الطوخي وسليمان فياض وبدر نشأت وصبري العسكري وعباس أحمد وغيرهم، أو ممن سبقوه والذين لحقهم ضرر من الزعم بأن القصة القصيرة قبل إدريس لم تكن على ما يرام، مثل محمود ومحمد تيمور ومحمود طاهر لاشين وعيسى عبيد وسعد مكاوي ويحيى حقي ومحمود البدوي ويوسف جوهر ومحمود كامل المحامي وغيرهم.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

شعبان يوسف يثأر لضحايا يوسف إدريس

في هذا الكتاب ينتصر شعبان يوسف، مثل عادته، للمنسيين أو “المستبعدين”، سواء منهم الذين استمروا في نضالهم ضد الإقصاء، أو الذين انسحبوا من المشهد الأدبي قانطين أو قانعين أو مستسلمين، وهي مهمة أخذها الكاتب على عاتقه في الفترة الأخيرة،إذ راح يؤرخ لكل هؤلاء، محاولًا إنصافهم والحدب عليهم، سواء في كتابه السابق “لماذا تموت الكاتبات كمدًا؟”، أو مقالاته التي نشرها تباعًا في جريدة “أخبار الأدب” عن بعض الشخصيات الأدبية التي لمعت وسادت ثم بادت في زمن وجيز واستقرت في قعر النسيان، أو حتى بعض الندوات التي يعقدها لكتّاب لم ينالوا حظهم من الشهرة والاعتراف، في ورشة الزيتون التي يشرف عليها منذ ربع قرن تقريبًا.

أعتقد أن هذا مسلك طيب ونبيل في حد ذاته، بل ومفيد في إطار تأريخ الأدب من خلال مبدعيه سواء على مستوى أدائهم أو ظروف عصرهم وتأثيره عليهم أو متون نصوصهم، لكنه أيضًا مسلك يجب أن يكون معنيًا ومدعيًا أكثر للإجابة على سؤال مهم، يتصل بالطبع بالحديث عن يوسف إدريس وأمثاله من رموز الأدب الكبار، ألا وهو: لماذا يحصد بعض الأدباء الشهرة والمجد ولا ينال غيرهم هذا حتى لو كان إبداعهم قوي ولافت في حد ذاته؟

مقالات ذات صلة:

الخال فانيا

بين الأدب والأديب

اضغط على الاعلان لو أعجبك

قراءة في كتابات قاض وشهاداته

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

اضغط على الاعلان لو أعجبك

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري

مقالات ذات صلة