فن وأدب - مقالاتمقالات

بين الأدب والأديب

منذ عام تقريبا كان لقائي مع القراء والمتابعين عبر الفضاء الأزرق، وقد كانت خطوة محسوبة، حيث إنني لم أقدم عليها إلا بعد تفكير عميق، وتدبير دقيق، إذ لم أفعل ذلك إلا بعد أن تفرغت تماما من أية قيود، خصوصا أبحاثي العلمية، وترقياتي الأكاديمية، حتى حصلت على درجة الأستاذية، ولله الحمد والمنة،

ثم تركي لمنصبي الإداري بوصفي وكيلا للكلية لشؤون التعليم والطلاب، حيث كانت الأبحاث والإدارة تستحوذ على جل وقتي، حتى أنني لم أكن أفرغ لحياتي الشخصية، وكثيرا ما كان الأسبوع والأسبوعان يمران وأنا لا أكاد أرى أسرتي وأولادي إلا لماما.

وبعد إلحاح من الأهل وبعض شياطين الإنس أقدمت على عمل صفحتي على الفيس بوك، وكان ذلك أواخر شهر مايو عام ألفين وتسعة عشر، وفي العشر الأواخر من رمضان، حيث كانت ملائكة الرحمة تتنزل على العباد، فتمطرهم بوابل من صيبه، وبرحمات من فيضه.

شياطين الشعر والنثر

شعر نت - بين الأدب والأديب

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وقد كنت حديث عهد بفيس ولا زلت، ومن ثم فقد اتكأت على عصا غيري في تعاملي مع آليات هذا العفريت الجديد، لكنني ومن ساعتها آليت على نفسي ألا أنشر في صفحتي إلا كل ما هو نافع ومفيد، خصوصا وأن طلبات الصداقة قد انهالت عليّ كالسيل، ولم يمر شهر إلا وقد تجاوزت الطلبات خمسة آلاف من طلابي وأصدقائي وأساتذتي من كل حدب وصوب.

وقد اتخذت على نفسي عهدا أيضا ألا أنشر في صفحتي إلا ما كان من إبداعي وقريحتي، شعرا ونثرا، وكنت آنئذ قد تسلحت –بحكم تخصصي في دراسة الأدب والنقد– بمذخور لا بأس به من قراءات متنوعة للأدب قديمه وحديثه، شعره ونثره، ناهيك عن ثقافة متنوعة خبرتها من أيام الطلب حتى وصلت إلى درجة الأستاذية، فلله الحمد والمنة!

وبينما كانت ملائكة الرحمن تتنزل على العباد، إذا بشياطين الشعر والنثر تنهال عليّ وتوحي إليّ من فيوضاتها، ولا تكف عن الهمز والوسوسة في ساعة من ليل أو من نهار، وغدوت حينئذ كالمغلوب على أمره، لا أستطيع أن أوقف سيلهما، أو أتعرض لهما، فكان ما كان!

معاناة الكُتاب مع الكتابة عبر الفيس بوك

نشرت على صفحتي عشرات القصائد الكلاسيكية منها والحديثة، ناهيك عما يقارب من مئة من المقالات والخواطر النثرية، وكان كل ذلك إنما يعبر عن حالات إنسانية وتجارب بشرية متنوعة، فرحا أو ترحا، تغزلا أو رثاء، مدحا أو قدحا، فخرا أو ذما، إلخ.

بيد أنني كنت في كل مرة أعاني معاناة ممضة من عملية المماثلة والمطابقة بين ما أكتبه من أدب وبين شخصيتي الحقيقية، حيث درج كثير من المتابعين على إسقاط كل ما أنشره عليَّ،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فإذا كتبت متغزلا، قالوا: محبا والها، ومدنفا صادقا، قد تبله الحب، وأضناه السهر، وتيمته المحبوبة، ونحله الهوى، وضاع في سراديب الهيام، وتملكه العشق، وتركته المحبوبة، وشغلته المتيمة،

وإذا كتبت هاجيا أو ذامًّا قالوا: من هذا الذي يجرؤ أن يهجوك، ومن اقتحم حرمك وأنت بين ظهرانينا، فتنادوا بينهم، هلمَّ إليه؛ نذيقه الهوان، ونسيمه الخسف ومرارة العصيان!، وإذا كتبت شاكيا، قالوا: مالك يا من تسقينا السعادة؟! وتغمرنا بالفرح والقيادة؟! فما الذي أحزنك؟ ومن الذي أهمك وأتعبك؟!

ما هكذا يكون تلقي الأدب

58b76ecf4c5f7 - بين الأدب والأديب

وما هكذا تورد الإبل! وما هكذا يكون تلقي الأدب، إذ إن الأديب أو الشاعر بصفة خاصة إنما يكتب ما يعيشه، أو يعايشه، أو يتخيله، وربما غلب عليّ شعر الغزل، وذلك أمر لا أنكره، إذ هو مشاهد، معاين، وربما يكون ذلك بحكم طبيعتي في حب الجمال،

وعشق الحسن والمثال، ناهيك عن أطروحتي في الدكتوراة التي كانت عن الغزل الأندلسي، ناهيك عن قراءاتي الكثيرة في دواوين العشاق وأهل الصبابة، ومن ثم كان ذلك أمرا طبيعيا وشيئا بدهيا.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

عبقرية الأديب وقوة الشاعر

فإذا رأيت يا صديقي العزيز منشورا لي في أي فن من الفنون، فلا تجهد نفسك في إسقاطه عليّ، صحيح فإن كل قطعة أدبية (شعرية أو نثرية) إنما هي مضغة من قلبي، وقطعة من روحي، وطيف من نفسي،

لكن ليس بالضرورة أن يكون ما فيها من معان، وما تتضمنه من أفكار، وما تتلبسه من مضامين هو محض تجربة ذاتية، عانيتها، أو خبرتها وعشتها، فربما كانت الشرارة الأولى كذلك، ربما، لكنني أضفي عليها من توابل الإبداع،

وبهارات الخيال ما يحولها إلى نص فني يعجب المتلقي، ويهيم به المستقبل،فيجد فيه روحه، ويتلمس عنده حياته، فإن حدث ذلك تلبسها كل شخص، وتزين بها كل إنسان، وهنا تستحيل التجربة الشخصية إلى تجربة عامة حياتية،

وتلكم، لعمري، عبقرية الأديب، وقوة الشاعر، كيف يستحيل الخاص إلى عام، وما أجمل أن تلمس كلماتي شغاف قلب أسهره الحب، أو تبله السهد، أو خذله الصديق، أو غاب عنه الرفيق، أو نافقه القريب، أو تلقفه الغريب!

اقرأ أيضاً:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الشعر العربي في خطر

الكائن الافتراضي

الكتابة للمستقبل

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. محمد دياب غزاوي

أستاذ ورئيس قسم اللغة العربية- جامعة الفيوم وكيل الكلية ( سابقا)- عضو اتحاد الكتاب

مقالات ذات صلة