مقالاتمنطق ومعرفة - مقالات

العلاقة السببية بين الإمكان والضرورة .. الجزء الثامن

سابعًا: الاتصال السببي وميكانيكا الكوانتم

الحق أنه ما كان لمشكلة السببية أن تُثار على هذا النحو الحاد الذي شهدناه منذ بداية القرن العشرين لولا افتراض “ماكس بلانك” لكم الفعل الإشعاعي، ثم اعتقاد “بوهر” و”هايزنبرج” بالانفصال كنفثة طبيعية مميزة للنظم الذرية، فأولى نتائج هذا الفرض أو ذاك الاعتقاد أن أصبح الوصف الظاهري لحوادث الذرة مستحيلًا بمصطلحات الميكانيكا النيوتونية، أعني في ضوء الزمان والمكان المتصلين من وجهة النظر الكلاسيكية، فكان ذلك مُبررًا لنبذ مبدأ السببية، والاستعاضة عنه بعلاقة اللا يقين التي تؤكد الصفة اللا حتمية (Interdeterministic) لعالم الجسيمات دون المجهرية (Submicroscopic).

يُعبر “هايزنبرج” عن ذلك فيقول: “في الصياغة الدقيقة لمبدأ السببية: إذا عرفنا الحاضر بدقة، أمكننا حساب المستقبل. ولا يكمن الخطأ في الجملة الثانية، وإنما في الافتراض الأول، فنحن لا نستطيع مبدئيًا معرفة الحاضر بكل مواصفاته، وبما أن الصفة الإحصائية لنظرية الكوانتم ترتبط ارتباطًا وثيقًا بلا دقة جميع الإحساسات، فقد يتوهم المرء أن وراء العالم الإحصائي المحسوس يختفي عالم حقيقي ينطبق فيه القانون السببي. لكن هذه التأملات تبدو عقيمة وخالية من المعنى، فالفيزياء يجب أن تقتصر على وصف رابطة الإحساسات وصفًا شكليًا. ونستطيع أن نصور واقع الحال بشكل أفضل كما يلي: بما أن جميع التجارب تخضع لقوانين الكوانتم، فقد ثبت بشكل قاطع بواسطة الميكانيكا الكماتية عدم صحة قانون السببية”.

يضرب “هايزنبرج” مثالًا توضيحيًا لذلك بدراستنا لتحلل ذرة واحدة من ذرات “الراديوم ب” (Radium B)، فنحن نعرف أن هذه الذرة ستشع إلكترونًا في وقتٍ ما وفي اتجاه ما، لتتحول بذلك إلى ذرة “راديوم ت” (Radium C). وفي “المعدل” يحدث ذلك بعد نحو نصف ساعة، لكن من الجائز أن يحدث هذا التحول في ثوانٍ أو بعد أيام، وكلمة “معدل” هنا تعني –إذا كنا نلاحظ عددًا كبيرًا من ذرات “الراديوم ب”– أن نصف الكمية الملاحظة سوف يتحول بعد نصف ساعة إلى “راديوم ت”. لكننا –وهذا تعبير عن قصور قانون السببية– نستطيع أن نعطي سببًا –إذا اعتبرنا ذرة واحدة من ذرات “الراديوم ب”– لكون الإلكترون قد انطلق في هذا الاتجاه وليس في اتجاه آخر، ولكون الذرة قد تحولت الآن وليس بعد أو قبل ذلك. كما أن هناك أسبابًا كثيرة تدعونا للاعتقاد بأن مثل هذا السبب غير موجود على الإطلاق.

من الواضح أن استبعاد هايزنبرج للعلاقة السببية إنما يرجع إلى تحليله لها في إطار نمطٍ بعينه، ذلك القائل بأن السبب ذاته يؤدي إلى النتيجة ذاتها، هذا فضلًا عن نظريته المعرفية الخاصة المعروفة بتفسير “كوبنهاجن”، التي ينكر فيها إمكانية وصف العالم (أو أي جزء منه) دون أية إحالة إلى أنفسنا، كأن نقول مثلًا أن مدينة لندن موجودة سواء أدركناها أم لم ندركها. ففي البحث الكماتي لا بد لنا من أن نبدأ بتجزئة العالم إلى “ملاحظة” وإلى “نظامٍ” يخضع لتلك الملاحظة. وكما نعرف فإن هذا النظام عادة ما يكون شيئًا غاية في الصغر تحكمه علاقة اللا يقين: جسيمًا ذريًا مثلًا أو مجموعة من مثل هذه الجسيمات. ولما كان هذا النظام متصلًا اتصالًا مباشرًا بترتيبات التجربة، فإن معرفتنا تحمل أثر التعامل مع أداة القياس، مما يُدخل قدرًا جديدًا من اللا يقين يتعلق بالتركيب الميكروسكوبي لهذه الأداة. وإذ إن أداة القياس ترتبط ببقية العالم، فإنها تضم في الواقع كل “لا يقين” متعلق بالتركيب الميكروسكوبي للعالم كله.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن “الملاحظة” ذاتها تتغير بشكل متقطع غير متصل، وموضع أي قَطْع يحكمه قرار تعسفي من المجرب بوقف التجربة، ومن ثم فإن التمثيل الرياضي للملاحظة سيتخذ أيضًا شكل تغير متقطع يُسمى “قفزة الكوانتم”. وحتى إذ افترضنا أن العلاقة السببية قائمة على أحد جانبي أي قطع، فإن هذا الفرض لا يمكن أن تدعمه التجربة، لأن ما نستطيع ملاحظته شيء ما يقع بدقة في منطقة التداخل بين الملاحظ وبين الآلات التي يلاحظ بها، وكما ذكرنا فإن نشاط هذه المنطقة ليس محكومًا بقوانين سببية، وإنما بعلاقة اللا يقين. وما دام النظام البحثي لا يوجد مستقلًا بذاته، وما دامت قوانين الطبيعة ليست نماذج موضوعية، بل إن معناها يختلط بكيفية التحقق منها، فإن التسبيب الفيزيائي يمكن تنحيته جانبًا، بل إن هايزنبرج ليتنبأ بأن مبدأ السبق الزمني (Antecedence)، وهو الدعامة الأولى للاتصال السببي، قد لا يمكن الإبقاء عليه في الخطوة التالية تجاه “اللا حتمية”. ورغم اتفاق هذا التفسير مع فرضيتنا القائلة بأن غياب الاتصال يعني زوال التسبيب، فإننا لا نستطيع المصادرة ببساطة على عدم تحقيق الاتصال في المجال دون الذري، ومن ثم انتفاء العلاقة السببية بين الحوادث. وقد ذكرنا من قبل أن تفسير كوبنهاجن ليس تفسيرًا نهائيًا، بل إن له من المعارضين من لا تقل حجتهم قوة عن حُجة بوهر وهايزنبرج.

نُشير في هذا الصدد إلى ما يُعرف بتفسير “بوهم – دي بروجلي” لنظرية الكوانتم، وهو تفسير مُضاد ينظر إلى الجسيمات الذرية بوصفها بنية واقعية موضوعية، تناظر النقاط الكتلية في ميكانيكا نيوتن، والموجات في نظرية المجال لـماكسويل، ونستطيع بواسطته أن نصل إلى نتائج تجريبية تتفق ونتائج تفسير كوبنهاجن.

في هذا التفسير المضاد تقع ظواهر الكوانتم القابلة للملاحظة، لا في منطقة التداخل بين الذات والموضوع، وإنما في منطقة التداخل بين الموضوع والآلة. أما نشاط الموضوع ذاته فيُمثّل رياضيًا بعددٍ من المتغيرات الجديدة تعرف بالمتغيرات المستترة (Hidden parameters)، وهي ليست عُرضة لعلاقة اللا يقين. وهكذا تنفصل الذات عن الموضوع، وتخضع الحركات العشوائية للجسيمات لقانون سببي إحصائي يمنحنا قدرة على التنبؤ الدقيق

من الطبيعي أن يُعارض بوهر وهايزنبرج هذا التفسير، لكنه مع ذلك اجتذب عددًا كبيرًا من العلماء، منهم من نظر إليه أنه تفسير بديل متكامل ومنهم من عدَّه مجرد خطوة على طريق فض الاشتباك بين الذات والموضوع، فهذا “ماكس بلانك” مثلًا –الباعث الأول لفكرة الكوانتم– يؤكد بوضوح أن نظرية الكوانتم سوف تجد تعبيرها الدقيق في بعض المعادلات التي سوف تكوّن صياغةً أكثر دقة لقانون السببية. أما آينشتين، فرغم ما أحدثه من تطوير في بنية الفيزياء النظرية، فإنه ظل معتقدًا بالتحقق الموضوعي للاتصال والسببية، وهو اعتقادٌ يدعمه إيمانٌ مطلق بوجود إله قادر يحكم العالم بقوانين أشد صرامة مما قد نظن، أو كما قال: “لا يُصدق بعض علماء الفيزياء –وأنا واحد منهم– أننا يجب أن نتخلى فعلًا وإلى الأبد عن فكرة التمثيل المباشر للحقيقة الفيزيائية في الزمان والمكان، أو أننا يجب أن نقبل الرأي القائل بأن الحوادث في الطبيعة تشبه لُعبة الحظ! كلٌ منا حُرٌ في أن يختار قبلته، وكلٌ منا قد يستمد راحة نفسه من قول لسنج [الفيلسوف والناقد الفني الألماني إبراهام لسنج (1762 – 1781)]: إن البحث عن الصدق أثمن من امتلاكه”.

هناك ما يغرينا بأن نواصل البحث في مشكلة السببية، فما زالت أبعادها متعددة، لولا أننا ارتبطنا منذ البداية بفرضٍ بعينه، أردنا التحقق منه، ألا وهو القائل بارتباط السببية باتصال الحوادث، أعني قيامها بقيامه وزوالها بزواله. وقد تبين لنا مدى تحقق هذا الفرض في أكثر من مذهب فلسفي ونظرية علمية، فما أثبت الترابط السببي عالم أو فيلسوف إلا وكان لديه اعتقادٌ مسبق باتصال الحوادث في الطبيعة، وما شكَّك في موضوعية العلاقة السببية عالمٌ أو فيلسوف إلا وكانت حجته انفصال الحوادث، كلٌ برؤيته الفلسفية ومنهجه العلمي.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

قد لا يجد هذا الفرض قبولًا مطلقًا لدى البعض، زعمًا منهم بأن القول بضرورة الاتصال السببي من شأنه أن يقلص مدى شرعية مبدأ السببية، فالاتصال ذاته كونه مبدأ علميًا لا يخلو من استثناءات كمية أو كيفية، الأمر الذي يعني إنكار المبدأ السببي حيثما غاب الاتصال عن أعين العلماء. لكن هذا الزعم في الحقيقة يُخل بالطابع التفسيري للعلاقة السببية، فضلًا عن أنه يصادر عليها بطريقة تعسفية، تدفعنا إما إلى قبول التأثير عن بُعد، وهي مقولة كانت وما زالت تؤرق العلماء وتثير جدلًا واسعًا، أو إلى تجنب الخوض في إشكالات علمية ما زالت قائمة، ما يعني تقليص مدى الرؤى الفلسفية التي أصبحت سمة أساسية من سمات العلماء أنفسهم.

الحق أن الأصل لمشكلة السببية كما تبدى لنا، إنما يرجع إلى غموضٍ في طرح المشكلة ذاتها، فالبعض –وهم أصحاب المذهب العقلاني– يبحثون عن السببية في ثنايا تصورات العقل الخالص، بينما يبحث البعض الآخر –وهم أصحاب المذهب التجريبي– عن الشروط التطبيقية لتصور عقلي مبعثه التأمل. وهكذا اتسعت الفجوة بين التصور وتطبيق التصور، أو بين مطالب العقل وتسجيلات الحواس. ولا سبيل إلى ملء تلك الفجوة بقرارٍ علمي حاسم، فما زلنا كما قال نيوتن مثل أطفال يلعبون بالحصى على شاطئ البحر، وربما نزلنا مؤخرًا إلى البحر قليلًا، وربما وصل الماء إلى رسغ القدم، لكن محيط الحقيقة الهائل ما زال ممتدًا أمام أعيننا دون اكتشاف.

لم يبق أمامنا إذًا إلا أن نصادر –كما فعل راسل– على مبادئ بعينها من البحث العلمي، أملًا في الوصول إلى دعم تجريبي لها في المستقبل، وإلا فلنرفض دون مضض نظريات علمية هائلة مثل مجالات ماكسويل ونسبية آينشتين ما دامت في جوهرها فروضًا عقلية.

أخيرًا نتوجه بسؤال محدد إلى دعاة اللا حتمية: كيف تنادون بسقوط الحتمية وأنتم تتخذون منها منهجًا لدعم هذا النداء؟ وبعبارة أخرى: كيف تستبعدون الحتمية نتيجةً “حتميةً” لتحليلاتكم؟ أفلا يعني ذلك حتمية العلاقة السببية وعقلانيتها التي تزعمون استبعادها؟ أفلا يعني أنها مبدأ عقلي راسخ لا يمكن الفكاك منه؟

مقالات ذات صلة:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الجزء الأول من المقال، الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال، الجزء الرابع من المقال

الجزء الخامس من المقال، الجزء السادس من المقال

الجزء السابع من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية

مقالات ذات صلة