مقالاتمنطق ومعرفة - مقالات

العلاقة السببية بين الإمكان والضرورة .. الجزء الخامس

ثالثًا: السببية في القرن العشرين [برتراند راسل (B. Russell 1872-1970)]

نصطفي “راسل” من بين فلاسفة القرن العشرين لنعرض بإيجاز رؤيته للعلاقة السببية، ليس لأن اعتقاده باتصال حوادث الطبيعة يقترب في قبليته من اعتقاد كانط فحسب، لكن أيضًا لأن نظريته المعرفية اتسمت بالتطور عبر مؤلفاته المختلفة لتواكب تطور نظريات علم الطبيعة، فلقد آمن بأن الفلسفة ينبغي أن تكون علمية في جوهرها، وأن يكون المثل الأعلى لها علميًا، فجاءت رؤيته الأخيرة للسببية محصلة لتراكمات علمية وفلسفية يقف “آينشتين” على قمتها.

أثبت راسل هذه الرؤية في كتابيه: “المعرفة الإنسانية: مداها وحدودها” (1948) و”فلسفتي كيف تطورت” (1958)، إذ عقد في كلٍ منهما فصلًا عما يدعوه بـ”مصادرات البحث العلمي”، وهي مبادئ لا يمكن البرهنة عليها منطقيًا، ولا يتوقف صدقها على الخبرة، وإنما نُسلم بها منذ البدء كونها وسيلة لبناء العالم الخارجي معرفيًا. أو بعبارة أخرى، هي مبادئ تصدق بمقتضاها استدلالاتنا من خبراتنا الذاتية إلى الطبيعة الخارجية. وسوف نلاحظ عن طريق تلك المصادرات مدى اعتقاد راسل باتصال الحوادث أنه مبدأ قبلي يرتد إليه مبدأ السببية، كما نلاحظ أيضًا مدى تأثره بنظرية آينشتين في النسبية، لا سيما قوله إن الحوادث هي النسيج الذي يتألف منه متصل الزمان – مكان، وأن الضرورة تحكم العالم من خلف نسبية الإدراكات الحسية.

مصادرة شبه الدوام (The Postulate of quasi – permanence):

صاغها راسل على النحو التالي: إذا كانت “أ” أية حادثة لدينا، فإنه يحدث في الغالب الأعم أن توجد في أي وقت مجـاور وفي مكان مجاور حادثة أخرى كبيرة الشبه بالحادثة “أ”.

وفقًا لهذه المصادرة يكون الشيء سلسلة من الحوادث المتصلة، ذلك أن الشيء (أو قطعة المادة) ليس كائنًا وحيدًا باقيًا وثابتًا، بل خليط من حوادث لها نوع من الارتباط السببي بين كل منها، فالمنزل –مثال شرح لهذه المصادرة أو القانون السببي– لا يُعد مركبًا من حادثة أو أكثر تبقى حتى يتحطم المنزل، بل يتركب من سلسلة حوادث على وجه تكون معه هذه الحوادث ليست هي ذاتها التي يتركب منها في لحظة ما سابقة أو لاحقة قليلًا، بل تكون مشابهة لها تمامًا. وبهذا المعنى تُمثل الحوادث تاريخًا متصلًا لأي جسم مادي، مما يذكرنا بالتمثيل التجريبي الأول لـ”كانط”، حين جعل من الدوام رسمًا تمثيليًا لمفهوم الجوهر تنتظم بموجبه مدركاتنا الحسية المنفصلة، وإن كان راسل قد أعاد صياغة هذا التمثيل بما يتفق ونتائج النظرية النسبية لآينشتين.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

مصادرة الخطوط السببية القابلة للانفصال (The Postulate of separable causal Lines)

كثيرًا ما يكون من الممكن أن تؤلف سلسلة من الحوادث على نحو يمكننا معه أن نستدل من عضو أو عضوين منها شيئًا ما فيما يتصل بجميع الأعضاء.

هذه المصادرة امتداد للمصادرة الأولى، إذ يفترض راسل فيها أن ثمة سلسلة من الحوادث تشكل خطًا سببيًا. وما دامت تشكل خطًا سببيًا فإنها تخضع لفكرة القانون السببي، لذلك فإن معرفة بعض أعضاء هذه السلسلة يكفل لنا معرفة بقية الأعضاء. وخير مثال على استخدام تلك المصادرة فكرة الحركة، إذ يحتفظ الشيء بهويته وذاتيته مع تغير موضعه. يكفي أن نشير إلى دوام موجات الصوت أو الضوء، فبفضل هذا الدوام يمكن لعمليتي السمع والإبصار أن يقدما لنا معرفة عن حوادث معينة قربت أو بعدت.

مصادرة الاتصال الزماني (The Postulate of Spatio-temporal continuity)

عندما يكون هناك اتصال سببي بين حادثتين ليستا متجاورتين، فلا بد وأن تكون بينهما حلقات متوسطة في السلسلة السببية تجاور كل واحدة منها الأخرى. أو أنه توجد بدلًا من ذلك عملية متصلة بالمعنى الرياضي.

أول ما يصرح به راسل بصدد هذه المصادرة أنها معنية برفض التأثير عن بُعد، ويعني بذلك أن سلاسل الحوادث أو السلسلة السببية دائمًا سلسلة متصلة ليس فيها فجوات أو فواصل، فلا تؤثر الحوادث في حوادث أخرى تنفصل عنها في الزمان والمكان إلا عند وجود سلسلة تصل ما بينهم. وتكمن أهمية هذه المصادرة في أنها تبيح لنا الاعتقاد بوجود الموضوعات الفيزيائية حين لا تكون موضع إدراك حسي. وبذلك يتجاوز راسل الثغرة التي أوقعت “هيوم” في التناقض حين أنكر اتصال التسبيب استنادًا إلى تسجيلات الحواس المنفصلة، ثم عاد فقال بالتجاور لتفسير التأثيرات السببية، فتلك الأخيرة وفقًا لـراسل لا يمكن أن تنتقل في شكل قفزات بين الحوادث، وإنما تنتقل انتقالًا متدرجًا يعبر منه عدد لا متناه من الحوادث في أي فاصل زمكاني.

المصادرة البنائية (The structural postulate)

إذا ما انتظم عدد من الحوادث المركبة المتشابهة من حيث البناء حول مركز في مناطق لا يفصلها بعضها عن بعض فواصل فسيحة، فالأمر المعتاد أن كل هـذه الحوادث تنتمي إلى خطوط سببية ترجع بأصلها إلى حادثة تقع في المركز ولها نفس البناء.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هذه المصادرة ضرورية لنظرية راسل في الإدراك الحسي، فالبناء (Structure) يفسر لنا كيف أن حادثة مركبة يمكن أن تكون على اتصال سببي بحادثة أخرى مركبة، رغم أنهما ليستا متشابهتين من حيث الكيف، وإن كانتا متشابهتين بالضرورة في الخواص المجردة لبنائهما الزمكاني. وأوضح مثال يقدمه راسل ليظهر طبيعة البنية الزمكانية للحوادث:

لنفرض أن (أ) يقرأ بصوت مسموع، وأن (ب) يدون ما يسمعه من (أ)، وأن ما رآه (أ) في الكتاب متطابق حرفيًا مع ما كتبه (ب)، فمن التناقض أن ننكر الارتباط السببي بين أربع مجموعات من الحوادث:

1) ما هو مطبوع في الكتاب.

2) الأصوات التي صدرت عن (أ) وهو يقرأ بصوت مسموع.

3) الأصوات التي سمعها (ب).

اضغط على الاعلان لو أعجبك

4) الألفاظ التي دونها (ب).

يصدق الأمر ذاته على آلة التسجيل وما يصدر عنها من موسيقى، فهذه كلها متشابهة من حيث البنية. وهكذا فالمصادرة تبرر دون برهان اعتقادنا بوجود أشياء عامة وموضوعية، أو وجود مجموعات عامة من الحوادث المتصلة، تشكل أصلًا عامًا للمدركات الحسية لدى كثرة من الناس.

مصادرة التمثيل (The postulate of analogy)

إذا كانت لدينا فئتان من الحوادث (أ) و(ب)، وعلى فرض أننا كلما تمكنا من ملاحظة (أ) و(ب) كليهما وجدنا ما يبرر لنا أن نعتقد أن (أ) سبب (ب)، ترتب على ذلك أنه إذا لاحظنا (أ) في حالة مُعينة، لكننا لم نجد أية طريقة نلاحظ بها ما إذا كانت (ب) تحدث أم لا تحدث، فمن المحتمل أن تحدث (ب)، وكذلك الحال إذا ما لاحظنا (ب) لكن لم نستطع أن نلاحظ ما إذا كانت (أ) حاضرة أم متخلفة عن الحضور.

ترتبط هذه المصادرة بوظيفة هامة؛ تبرير اعتقادنا في عقول الآخرين، أو بعبارة أخرى تبرير شهادة الغير التي تشكل جانبًا كبيرًا من معارفنا، فإذا كان الاعتقاد بعقول الآخرين مصدره خبرات وقعت لي، وأن هذه الخبرات قد تكون مُضللة، كان من الضروري وضع مصادرة تمثل بداية معارفنا بهذا الصدد.

لسنا هنا بصدد تقييم المصادرات أو فحص وظيفتها الإبستمولوجية، وإنما أردنا فقط الإشارة إلى موقف راسل الأخير من علاقة الأسباب بنتائجها. وقد لاحظنا تخلي راسل عن مبدأ السببية بمعناه التقليدي الذي يقضي بأن لكل حادثة فردية سبب يمثل بدوره حادثة فردية، فالسببية كما تُخبرنا المصادرة الثانية: أي قانون يجعل من الممكن أن نستدل من عدد غير محدود من الحوادث على حادثة أخرى أو مجموعة من الحوادث. والاستدلال هنا احتمالي، لكنه يكاد يقترب من اليقين، وهذا التعريف في الواقع تعريف للحتمية، كأن راسل بذلك يرد الحتمية إلى السببية. أما عن مصدر السببية، فمن الواضح أنه مبدأ الاتصال، الذي يبدو اعتقاد راسل به اعتقادًا كانطيًا قبليًا، يمثل أساسًا للبحث العلمي.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هذا الموقف لـراسل يقودنا إلى التساؤل عن علاقة القانون السببي بالقانون الإحصائي، وهل يخلو الأخير من أي ترابط سببي؟ وماذا عن قوانين الكم التي ينكر أصحابها اتصال الحوادث ويزعمون بها احتضار السببية في باطن الذرة؟

يتبع…

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال

الجزء الرابع من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية

مقالات ذات صلة