مقالاتمنطق ومعرفة - مقالات

العلاقة السببية بين الإمكان والضرورة .. الجزء السادس

رابعًا: القانون السببي والقانون الإحصائي

يمكن القول بصفة عامة أن قوانين العلم الأساسية إما أن تكون قوانين سببية، أو قوانين إحصائية. ووفقًا للتقليد الشائع تُعرف الأولى بأنها: تلك التي تكشف بوضوح عن علاقات سببية مؤكدة بين الحوادث أو بين الظواهر، ومن أمثلتها قوانين الحركة لـ”نيوتن” وقوانين المجال لـ”ماكسويل” وقوانين النسبية لـ”آينشتين”. أما الثانية فهي: تلك التي تخبرنا بتحقق نتيجـة معينة في ظروف معينة بنسبة مئوية معينة، أي أنها قوانين احتمالية (Probabilistic laws)، تحدد علاقات كمية بين أنواع من الحوادث يمكن تكرارها، أو ملاحظة تكرار حدوثها عبر سلسلة طويلة متصلة من التجارب. ومن أمثلتها قوانين الغازات، والقانون الثاني للثرموديناميكا، وقوانين الطاقة والإشعاع في نظرية الكم. ورغم ما قد يذهب إليه بعض العلماء أمثال “بوهر” و”هايزنبرج” من أن جميع قوانين الطبيعة في جوهرها قوانين إحصائية، وأن هذه الأخيرة تمثل النموذج الأساسي الأعم للقوانين، فإننا على العكس من ذلك نفترض أن نوعي القانون العلمي: السببي والإحصائي –بالمعنى السابق– هما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة، وأن كليهما يفترض مبدأ السببية الذي يفترض بدوره مبدأ الاتصال.

نستند في هذا الفرض إلى نقطتين تؤدي كل منهما إلى الأخرى، أما الأولى فتتمثل فيما تحويه العلاقة السببية من أنماطٍ تتجاوز النمط التقليدي الشائع لها، والقائل بأن السبب ذاته يؤدي بالضرورة إلى النتيجة ذاتها. وأما النقطة الثانية فتنحصر في الفارق الواضح بين القانون وتطبيق القانون؛ بين النموذج الرمزي الذي يستخدمه رجل العلم في وصف الظواهر، وبين وصف ما هو مرئي أو قابل للرؤية في الواقع. ولنفصّل ذلك ببعض الأمثلة.

أنماط العلاقة السببية

بدايةً لو نظرنا إلى العلاقة السببية لوجدنا أنها تحتمل أنماطًا ثلاثة:

  1. السبب ذاته يؤدي إلى النتيجة ذاتها.
  2. أسباب مختلفة تؤدي إلى النتيجة ذاتها.
  3. السبب ذاته يؤدي إلى نتائج مختلفة.

أول هذه الأنماط يُعبر عن نظام حتمي تام، نمثل له بالميكانيكا النيوتونية، فإذا استطعنا معرفة الشروط الابتدائية –أي السبب– لأي نظام، أمكننا التنبؤ على نحو تامٍ بالشروط النهائية، أي النتيجة. من ثم نقول إن هناك تناظر واحد بواحد (One-One Correspondence) بين السبب والنتيجة. مثال ذلك: إذا أطلقنا رصاصة بسرعة مُعينة في اتجاه مُعين، فإننا نستطيع أن نُحدد من قوانين الحركة لنيوتن أية نقطة في الهدف سوف تُصيبها الرصاصة. وهذا يفترض طبعًا أن أسباب الانحراف البسيط عن النتيجة المحسوبة –مثل الاحتكاك ومقاومة الهواء مثلًا– يمكن إهمالها، فهي ليست شروطًا جوهرية بالمقارنة مع الرابطة الجوهرية التي يجسدها القانون. وهكذا نقول إن القانون السببي الحتمي حتمية مطلقة هو ذلك الذي يحكم حركة أجسام أو مجالات مفردة دون اعتبار لبنيتها أو تفاعلاتها الداخلية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أما ثاني هذه الأنماط فيعبر عن نظام إحصائي تتراجع حتميته إلى الوراء قليلًا، ويمكن أن نمثل له بالقانون الثاني للثرموديناميكا، إذ يوجد تناظر كثير بواحد (Many-One Correspondence) بين كل من الشروط الابتدائية والنهائية. فعلى سبيل المثال، إذا تلامس جسمان أحدهما ساخن والآخر بارد، فوفقًا لنص القانون القائل بعدم قابلية الظواهر الحرارية للارتداد، تتصادم جزيئات كل من الجسمين، ورغم أن هذه الجزيئات متفاوتة السرعة والاتجاه، مما يعني اختلاف الأسباب أو الشروط الابتدائية، فإن ما يحدث إجمالًا تعادل جميع السرعات عن طريق الاصطدامات، ليصل الجسمان في النهاية إلى درجة حرارة واحدة. ومن الواضح اختلاف النمط الأول عن النمط الثاني، فنحن في الحالة الأولى نتعامل مع نقطة كتلة مفردة، لها عدد صحيح من المتغيرات –مثل السرعة والاتجاه والموضع– ولكل متغير منها قيمة مضبوطة بصورة مُثلى، لا أكثر ولا أقل، ومن ثم يمكننا التنبؤ بالنتيجة على نحو صحيح مائة في المائة. أما في الحالة الثانية فإننا نواجه حشدًا من النقاط الكتلية، لكل منها متغيراته الخاصة اللا معروفة، ولذا نلجأ إلى حساب الاحتمالات.

لعل أشهر الأمثلة على حساب الاحتمالات: إلقاء العُملة أو قطعة النقود. ومن المعروف أن فُرص الحصول على أحد الوجهين عند إلقاء العملة تكون دائمًا متساوية، وعادة ما نقول إن فرصة الحصول على الصورة أو الكتابة 50%. لكن من المتعارف عليه في الرياضيات أن نقول إن الفرص هي 1/2: 1/2. فإذا جمعنا الكسرين نحصل على 1/2+1/2 = 1. والواحد الصحيح في نظرية الاحتمالات يعني اليقين، فالواقع أنك متأكد تمامًا أن إلقاء العملة سيؤدي إلى ظهور إما الوجه أو الكتابة.

أمامنا إذًا قيمتي صدق منفصلتين لكل جزء أو نقطة كتلية: صادق وكاذب (أو صورة وكتابة)، وحتى نستطيع التنبؤ بالنتيجة النهائية لحشد النقاط، نلجأ إلى تعميم قيم الصدق المنفصلة داخل صف متصل من قيم الاحتمال، وهو تعميم يستمد شرعيته من اتصال الزمان والمكان، أو مما عبر عنه راسل بمصادرة البناء. ويلزم عن تصور القانون الإحصائي بهذا المعنى أن تكون له خاصية التنبؤ السببي، لا التنبؤ التام الذي افترضه نيوتن، وإنما التنبؤ الدقيق الذي يسمح باستثناءات تنتظر اكتشاف قانونها الخاص.

أما النمط الثالث من أنماط العلاقة السببية فعكس الثاني، وإن كانت له أيضًا الصفة الإحصائية أو الاحتمالية، إذ يوجد تناظر واحد بكثير (One-Many Correspondence) بين الأسباب ونتائجها. ولنضرب لذلك مثالًا كماتيًا:

نفترض أن لدينا لوحًا زجاجيًا صُقل جيدًا، وأن شعاعًا ضوئيًا ملونًا يسقط عليه، من الطبيعي حينئذ أن نتوقع انعكاس جزء من الضوء، أما الجزء الباقي –ولنقل أنه ثلاثة أمثال الجزء الأول– فسوف يمر عبر اللوح الزجاجي. ولا تعتمد النسبة بين هذين الجزئين على شدة الضوء، أو بعبارة أخرى لا تعتمد على عدد الفوتونات الساقطة، إذ مهما كان هذا العدد فسوف ينعكس الربع وينكسر الباقي، فإذا كان عدد الفوتونات الساقطة كبيرًا، وليكن مليونًا، فمن السهل أن نقرر عدد ما ينعكس منها وعدد ما ينكسر، إذ نقول إن ربع مليون سوف ينعكس وثلاثة أرباع المليون سوف ينكسر، ونكون بذلك أمام علاقة سببية من النمط الثاني الذي يتضمن تناظر كثير بواحد بين الأسباب والنتائج. لكن افرض أن شعاع الضوء كان ضعيفًا للغاية، بحيث أن فوتونًا مفردًا فقط يسقط على اللوح الزجاجي، لا شك أننا هنا نواجه حالة مختلفة، فالسبب واحد، لكن النتائج متعددة، لأن نسبة انعكاس الفوتون إلى انكساره تساوي 1/4: 3/4 بلغة الاحتمالات. ومرة أخرى نقول إننا أمام علاقة سببية تتيح قدرًا دقيقًا من التنبؤ، ولو بصورة أخرى مختلفة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وفقًا لهذه القسمة الثلاثية لأنماط العلاقة السببية، نستطيع الزعم بأن جميع قوانين الطبيعة تنطوي على ترابطات سببية، وأنّ تَفرِقتنا بين ما ندعوه بالقانون السببي والقانون الإحصائي لا أساس لها من الصحة، لأنهما في النهاية وجهان لعملة واحدة، بل إنهما ليتداخلان أحيانًا في النظام البحثي ذاته، فالهواء مثلًا يخضع للقانون العام للغازات إذا أردنا التحدث عن حالته (الضغط والحجم ودرجة الحرارة)، وهو كما نعرف قانون إحصائي نتنبأ من خلاله بلغة الاحتمالات، لكن هذا القانون ذاته يصبح قانونًا حتميًا إذا ما طبقناه على كل الهواء في الوعاء الذي يحتويه، فعند معرفة الشروط الأولية للهواء والظروف الخارجية التي تؤثر فيه، يمكننا معرفة حالته النهائية بدقة تامة. وهكذا فإذا كان لا بد من التفرقة، فمن الأفضل أن نفرق بين قوانين سببية ذات يقين مطلق، وقوانين سببية ذات يقين دقيق. أو بعبارة أخرى بين قوانين تتسم بالحتمية المطلقة، وأخرى تقسم بحتمية معتدلة.

يتبع…

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال، الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال، الجزء الرابع من المقال

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الجزء الخامس من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية

مقالات ذات صلة