مقالات

«صُنع الله إبراهيم».. في مواجهة صندوق الأكاذيب!

حين تقرأ رواية من روايات «صُنع الله ابراهيم»، تجد نفسك أمام تجسيدٍ حي لواقعٍ عبثي ومرير عشناه وما زلنا نعيشه. هذا الواقع المُزري عبَّر عنه «صُنع الله» بوضوح، وبشكلٍ عملي، بموقفه إزاء منحه جائزة ملتقى القاهرة الدولي للإبداع الروائي العربي (في دورته الثانية سنة 2003)، والتي كانت تبلغ قيمتها مائة ألف جنيه مصري.

قصة جائزة صُنع الله إبراهيم

حيث وقف أمام أكثر من ثلاثمائة كاتب عربي وأجنبي في المسرح الصغير بدار الأوبرا المصرية ليعلن أمامهم رفضه للجائزة!

لكن الأمر لم يتوقف عند مجرد الرفض، بل أصر على أن يُلقي كلمة يُوضح بها حيثيات موقفه. وقد وصف بعض المراقبين كلمته القصيرة هذه بأنها «بيانٌ سياسي – ثقافي» يُدين الأنظمة العربية المعاصرة، ويفضح خضوعها لهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية، ويكشف عما استشرى فيها من فساد ومظهرية كاذبة!

يروي الدكتور جابر عصفور (وكان وقتئذٍ أمينًا عامًا للمجلس الأعلى للثقافة، قبل أن يُصبح وزيرًا) بعض تفاصيل هذا الحدث قائلًا:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

“صعد «صُنع الله إبراهيم» إلى حيث يقف أعضاء اللجنة والوزير فاروق حسني وصافحهم جميعًا وطلب أن يُلقى كلمة، وبالفعل وقف أمام الميكروفون وأخذ يُلقى بيانًا سياسيًّا حادًا في هجومه على ما رآه فسادًا في الدولة واستبدادًا من الحكومة.

وانقلبت البهجة في الوجوه إلى نوع من الصدمة التي أحدثت استجابات متباينة، منها ما كان مع «صُنع الله» ومنها ما لم يكن معه”.

بيان صُنع الله إبراهيم

6201511144735885 - «صُنع الله إبراهيم».. في مواجهة صندوق الأكاذيب!

وقف «صُنع الله إبراهيم» في ثباتٍ يُحسب له، غير عابئ بمن حوله من كبار رجال الدولة، واسترسل في كلماته الصادمة:

“في اللحظة التي نجتمع فيها هنا تجتاح القوات الإسرائيلية ما تبقى من الأراضي الفلسطينية، وتُقتل النساء الحوامل والأطفال، وتُشرد الآلاف، وتُنفذ بدقة ومنهجية واضحة خطةٌ لإبادة الشعب الفلسطيني وتهجيره من أرضه.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

العواصم العربية تستقبل زعماء إسرائيل بالأحضان، وعلى بُعد خطوات يحتل السفير الأمريكي حيًا بأكمله، وينشر جنوده في كل ركن من أركان الوطن الذي كان عربيًا!

لا يُراودني شكٌ في أن كل مصري هنا يُدرك حجم الكارثة المحيطة بوطننا، وهي لا تقتصر على التهديد العسكري لحدودنا الشرقية، والإملاءات الأمريكية، وعجز سياسة حكومتنا الخارجية، إنما تمتد لكل مناحي الحياة!

لم يعد لدينا مسرح أو سينما أو بحث علمي أو تعليم، لدينا فقط مهرجانات وصندوق أكاذيب، لم تعد لدينا صناعة أو زراعة أو صحة أو عدل، تفشى الفساد والنهب، ومن يعترض يتعرض للامتهان والضرب والتعذيب، انتزعت القلة المستغلة الروح منا.

الواقع مُرعب، وفي ظل هذا الواقع لا يستطيع الكاتب أن يُغمض عينيه أو أن يصمت، لا يستطيع أن يتخلى عن مسؤولياته. لن أطالبكم بإصدار بيانٍ يستنكر أو يشجب، فلم يعد هذا يُجدي، لن أطالبكم بشيءٍ فأنتم أدرى مني بما يجب عمله،

كل ما أستطيعه هو أن أشكر مرة أخرى أساتذتي الأجلاء الذين شرفوني باختياري للجائزة، وأعلن اعتذاري عن عدم قبولها لأنها صادرة عن حكومة لا تملك –في نظري– مصداقية منحها!”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فاروق حسني يحاكم صُنع الله إبراهيم في قضية جائزة الرواية

بعد أن انتهى البيان وأعلن «صُنع الله» رفضه للجائزة، وقبل أن يُغادر القاعة، اندفع فاروق حسني إلى الميكروفون مُعقبًا على ما قاله «صُنع الله»، ومُرددًا كلماتٍ يحفظ بها ماء وجه حكومته أمام العالم،

مؤكدًا أن النظام السياسي الذي هاجمه «صُنع الله» هو الذي سمح له الآن بإعلان الرفض، وبالتعبير الحر عن رأيه دون أن يتعرض له بالأذى أو بالتهديد، أو إعادته إلى المعتقل كما حدث في الستينيات!

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يرفض فيها «صُنع الله» استلام جائزة، فقد سبق وأن رفض سنة 1998 جائزة الرواية التي تحمل اسم الروائي المعروف نجيب محفوظ، والتي تمنحها الجامعة الأمريكية،

حيث أكد يومها أنه يرفض استغلال اسم كاتب مشهور مثل نجيب محفوظ من قبل مؤسسة أمريكية، تقوم حكومتها بمساندة احتلال إسرائيل للأراضي العربية ومواصلة قمع الشعب الفلسطيني، والقيام بدعم حُكام يقمعون شعوبهم باسم الحرية والديمقراطية!

جوائز قبلها صُنع الله إبراهيم

ورغم قبوله عددًا من الجوائز، مثل جائزة «غالب هلسا» التي منحته إياها رابطة الكتاب الأردنيين سنة 1992، وجائزة سلطان العويس (التي تمنحها دولة الإمارات العربية المتحدة) سنة 1994،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وجائزة ابن رُشد للفكر الحُر سنة 2004، إلا أنه سعى غالبًا إلى تحقيق وحدة القول والفعل، حيث استغنى عن أية وظيفة في مؤسسات الدولة بُغية الحفاظ على استقلاليته ككاتب حرّ.

وعوضًا عن ذلك جاء دخله الأساسي من كتابة سيناريوهات سينمائية وتلفزيونية، وروايات بيئية للشباب، وترجمات متنوعة، مثل رواية العدو “The Enemy” للأديب الأمريكي جيمس دروت “James Drought”، ورواية حمار بوريدان “Buridans Esel” للكاتب الألماني غونتر دي بروين “Günter de Bruyn”، وبعض النصوص النثرية لمؤلفين غربيين مختلفين، صدرت بعنوان: “التجربة الأنثوية”.

اقرأ أيضاً:

ذاكرة نجيب محفوظ

ويليم أوسلر Sir William Osler أبو الطب الحديث.. من هو؟

سباستيان ثرون

من هو صُنع الله إبراهيم؟

على الصعيد الإبداعي يُعد «صُنع الله إبراهيم» واحدًا من كبار الروائيين المصريين الذين اتسمت رواياتهم بالتمثيل الدقيق للواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي، وهو كذلك أحد أفضل أدباء الستينيات من القرن العشرين وأكثرهم إثارة للجدل.

وُلِدَ في القاهرة سنة 1937 لأبٍ كثير التنقل، أطلق عليه اسمًا من أغرب الأسماء العربية، وهو الاسم الذي سبب له كثرة من المشاكل.

يقول «صُنع الله» عن سبب تسميته بهذا الاسم: “عند ولادتي كان والدي يبلغ الستين من العمر، وقام بصلاة استخارة ثم فتح المصحف فجاءت أصابعه على الآية الكريمة: “صُنع الله الذي أتقن كل ّشيءٍ” (النمل: 88)،

ومن هنا تمت تسميتي «صُنع الله»، لكن هذا سبّب لي عدة مواقف مُحرجة عندما كنتُ في المدرسة لأنه كان اسمًا غريبًا، وكان دائمًا مثار فكاهةٍ للناس، أذكر أنَّ المدرس كان يقول لي: «صُنع الله»؟ ما كُلنا صُنع الله!”.

حياته

درس «صُنع الله» الحقوق، لكنه ما لبث أن اتجه إلى السياسة والصحافة، حيث كان في مرحلة عُمرية تروج فيها شعارات القومية العربية والاشتراكية العربية، فانضم إلى الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني التي عُرفت اختصارًا باسم «حدتو» (وهي منظمة شيوعية مصرية أسسها اليهودي المصري الشيوعي هنري دانيال كوريل)،

الأمر الذي أدى إلى اعتقاله سنة 1959 في إطار الحملة التي شنَّها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر على الشيوعيين والماركسيين، وظل في السجن حتى سنة 1964.

في سنة 1967 انخرط في العمل صحافيًا بوكالة الأنباء المصرية مينا “MENA”، ثم بوكالة الأنباء التابعة لجمهورية ألمانيا الديموقراطية سابقًا خلال الفترة من سنة 1968 إلى سنة 1971، ليتجه بعدها إلى موسكو،

حيث أقام بها لمدة ثلاث سنوات درس خلالها فن التصوير السينمائي. وبعد عودته إلى القاهرة سنة 1974 (في عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات) التحق بالعمل لدى إحدى دور النشر، ثم اتخذ قرارًا في سنة 1975 بأن يُنذر نفسه للكتابة بصفته كاتبًا حُرًا.

رواياته

65 - «صُنع الله إبراهيم».. في مواجهة صندوق الأكاذيب!

رواية تلك الرائحة

نشر «صُنع الله» عددًا من الروايات الهامة، منها رواية «تلك الرائحة» (1966) التي عالج فيها تجربة الاعتقال بسبب موقفه الانتقادي الرافض للقمع والفساد والكذب واللامبالاة والعبثية المجتمعية، كما جسَّد فيها حالة الاغتراب والعزلة التي عاشها في أعقاب خروجه من السجن،

وما لاحظه من تناقض بين شعارات الاشتراكية العربية الناصرية من جهة، والفساد والعقلية الاستهلاكية من جهة أخرى. إنها تلك الرائحة العفنة التي تحملها مياه شبكة المجاري المهترئة، وتتوارى تحت وطأتها الطهارة الجسدية والأخلاقية والعقلية، وتنهار اللغة، ويُفتقد المعنى، ويعجز المرء عن التواصل مع الآخرين في مجتمعه!

رواية شرف

هذا ما ركَّز عليه «صُنع الله» أيضًا في روايته «شرف» (1997) التي وصف فيها واقعنا العربي المرير المُشوه بانتهاكات وممارسات مُفزعة تتدثر بالقانون، وتدفع البطل شرف في النهاية إلى أن يستسلم مُرغمًا للانحطاط، مفتقدًا كل وأي معنى لكلمة «شرف»!

رواية نجمة أغسطس

أما رواية «نجمة أغسطس» (1974)، وهي ثاني أعماله الروائية، فيُحاكي فيها بنية سدّ أسوان العالي، الذي كان قد كتب حوله تحقيقًا صحفيًا نُشر سنة 1967 تحت عنوان «إنسان السدّ العالي»، بعد أن زاره سنة 1965 برفقة اثنين من أصدقاء زمن السجن، حيث تتحدث الرواية عن التناقض بين صورة بناء السد المرسومة في وسائل الإعلام وبين الواقع القمعي اللا إنساني في مكان البناء!

رواية اللجنة

بإمكاننا أيضًا أن نشير إلى رواية «اللجنة» (1981)، وهي بمثابة هجاء ساخر لسياسة الانفتاح التي انتُهجت في عهد السادات، وفتحت مصر اعتبارًا من سنة 1974 للبضائع والاستثمارات الغربية، وأدت بسرعة إلى اغتناء طبقة صغيرة عُليا، وإفقار أقسام كبيرة من الطبقة الوسطى والشرائح الدنيا في المجتمع.

تحكي الرواية عن مثقف يساري يذهب لمقابلة لجنة غامضة واسعة النفوذ، لا وجود لها على الأوراق الرسمية، ولا يعرف أحد ماهية أعضائها على وجه التحديد، ولا نوع الاختبار الذي تقوم به، ولا كيف يمكن التقدم إليها، ولكن قرارها مصيري في حياته؛ إما أن تمنحه فرصة جديدة في الحياة، أو أن تكون أسوأ كوابيسه.

عليه أن يوضّح أمام اللجنة دور الشركات الكبرى متعددة الجنسيات، كشركة كوكا كولا، والآثار السلبية لسياسة السادات الاقتصادية، كالفساد والاستغلال، وتزايد النفوذ الأمريكي. ومن باب التهكم تنتهي الرواية بالتهام البطل لنفسه بدلا من أن يتمرد!

رواية ذات

على المنوال ذاته يعزف «صُنع الله» في رواية «ذات» (1992)، والتي تُصوّر حياة امرأة من الطبقة الوسطى المصرية خلال مراحل حكم الرؤساء الثلاثة: جمال عبد الناصر، ومحمد أنور السادات، ومحمد حسني مبارك، وما اتسمت به هذه المراحل من تدهور في الظروف المعيشية، وانحلال للأخلاق العامة، وصعود لتيارات التعصب الديني.

رواية بيروت بيروت

كذلك لم يغفل «صُنع الله» عن التأريخ لأحداث عربية مؤثرة في رواياته، وهو ما تجلى مثلًا في رواية «بيروت بيروت» (1984) التي وصف فيها الحرب الأهلية اللبنانية والصراع الطائفي والاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني، وكذلك رواية «وردة» (2000) التي صوَّر فيها أحداث ثورة ظفار في سلطنة عُمان إبان السبعينيات، وكيف شاركت فيها المرأة بقوة، وكيف تم إخمادها سنة 1975!

لا غرابة إذن أن يرفض «صُنع الله إبراهيم» بعض الجوائز، فقد تعمد في رواياته أن يخدش السطح الأملس لجهالات مجتمعنا العربي، وأن يُلقي أحجارًا تُحرك المياه الراكدة في حياتنا المنقوصة، وأن يُعلن على الملأ أننا أمة مهزومة حضاريًا، مُغيبة سياسيًا، مستغلة اقتصاديًا من داخلها قبل خارجها.

لقد فتح أمام الجميع صندوق الأكاذيب الذي نتوارثه منذ عقود، تعليميًا وثقافيًا وصحيًا وسياسيًا، ومع ذلك، كان وما زال كطفلٍ يريد أن يقول ما لا يقوله الغير!

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية

مقالات ذات صلة