فن وأدب - مقالاتمقالات

ذاكرة نجيب محفوظ

هذه سلسلة من المقالات حول أدب نجيب محفوظ وشخصه، بوصفه “المعلم الأكبر” في مسيرة الرواية العربية، الذي تعددت زوايا علاقته بكل القادمين بعده، لتتراوح بين التأثر التام، الذي يصل إلى حد الاقتطاف والتمثل،

وبين التمرد عليه وتحديه، أو بمعنى أدق محاولة الخروج من عباءته، بغية التجديد في الشكل والمضمون، مرورا بأنماط متدرجة من تقليد النص المحفوظي أو العيش في رحابه.

نجيب محفوظ، كفنان وإنسان، له كثير في ذمة الناس، وعليه أيضا ما لا يمكن تجاهله، لا سيما أولئك الذين كانوا يعولون عليه أن يرفع صوته أعلى في سبيل الحرية والعدالة الاجتماعية، ولا يكتفي فقط بالإيمان بهاتين القيمتين في أدبه.

ذاكرة نجيب محفوظ المميزة

تظل ذاكرة نجيب محفوظ من بين ركام السنين التي خلت كواحدة من علاماته المميزة، وقدراته الفريدة، وكشاهد عيان على قرن تقريبا من تاريخ وطن. فمحفوظ كان يتمتع بذاكرة لاقطة، واسعة الأرجاء، طوت في رحابها تفاصيل لا حصر لها، سمعها صاحبها ورآها طيلة عمره المديد، ثم جلس ليسجلها على الورق نثرا رائعا، توزع بين قصص وروايات.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لكن محفوظ بقي في الحالتين، وكأنه وثيقة اجتماعية وسياسية، التزم صاحبها في كثير من المواضع أمانة في طرحها، وكساها بلغة رائقة وبناء درامي محكم، ليصير أدبه تاريخا غير رسمي، أو شعبي، لمصر في القرن العشرين.

مسيرة نجيب محفوظ المهنية

في البداية أراد محفوظ، الذي عاش خمسة وتسعين عاما، أن يعيد كتابة تاريخ مصر برمته في شكل أدبي، وأثمرت هذه الفكرة عن روايات ثلاث هي “عبث الأقدار” 1939 و”رادوبيس” 1943 و”كفاح طيبة” 1944، لكنه لم يلبث أن تخلى عن هذه الفكرة،

منحازا إلى الكتابة عما عايشه، سمعه ورآه وتفاعل معه بذهنه ووجدانه. وبدأ محفوظ هذا التحول، الذي يعد علامة فارقة في مشروعه الأدبي، برواية “القاهرة الجديدة” أو “القاهرة 30”.

وبعد هذا العمل المهم، راحت رواياته وقصصه تتتابع، خارجة من حشايا المجتمع المصري، راصدة طريقة حياته وتحولاته، وأشواق الناس الدائمة إلى العدل والحرية.

كيف أثرت ثورة 1919 في نجيب محفوظ الطفل؟

وقد رأت عينا محفوظ الدنيا في لحظة فاصلة من تاريخ مصر الحديث، كان فيها الاحتجاج ضد الاحتلال الإنجليزي ينمو في حنايا الجماعة الوطنية، والثورة تترتب على عجل، بعد أن أخفق جيش عرابي في صد الغزاة،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ورحل الزعيم الوطني الكبير مصطفى كامل عن الدنيا قبل أن يصبو إلى غايته في تحرير البلاد، ونفي خليفته محمد فريد إلى باريس ليموت على سطح أحد منازلها قبيل أن تضع الحرب العالمية الأولى أوزارها.

وكان محفوظ في الثامنة من عمره حين هب المصريون في ثورة شعبية عارمة سنة 1919، زلزلت الأرض من تحت أقدام المحتلين، ودفعت بسعد زغلول ورفاقه إلى قيادة الحركة الوطنية، وتشكيل الحكومة رغم أنف الإنجليز والملك.

ورأى أديبنا الكبير، بعيني طفل واع ذي ذاكرة حديدية، المظاهرات والمصادمات الدامية، التي شارك فيها الناس بمختلف أعمارهم وانتماءاتهم السياسية، رجال ونساء، مسلمون ومسيحيون، ريفيون وحضريون.

تاريخ مصر الاجتماعي في روايات نجيب محفوظ

08115640 ثلاثية القاهرة نجيب محفوظ - ذاكرة نجيب محفوظ

وحفظ محفوظ كل هذه المشاهد ووعاها جيدا، ثم نسج تفاصيلها الدقيقة كاملة في ثلاثيته الرائعة “بين القصرين” و”قصر الشوق” و”السكرية”، التي بدأ كتابتها قبل ثورة يوليو 1952، لكنه لم ينشرها تباعا إلا في عامي 1956 و1957، ثم ظهرت تجليات ثورة 19 في كثير من أعمال محفوظ اللاحقة، سواء في شكل خواطر مكثفة تدور حول هذا الحدث الكبير،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

تحملها مشاهد قصصية، تصور رؤية الناس للحدث وتأثيره فيهم، مثل ما ظهر في “حكايات حارتنا” أو في صيغة جزء من السياق العام للرواية الذي يسافر في زمن طويل، يبدأ من ثورة 19 وينتهي عند فترة حكم الرئيس أنور السادات مثل ما جاء في روايتي “قشتمر” و”الباقي من الزمن ساعة”.

وعبر كل هذا الزمن الطويل عرض محفوظ آلاف البشر ما بين أبطال لأعماله وشخصيات ثانوية من مختلف الانتماءات والولاءات والخلفيات الطبقية والمكانية ودرجة التعليم والتصور عن المجتمع والعالم والكون.

وجميع هذه الأصناف من البشر كانت حصيلة مشاهدات أديبنا الكبير وأفكاره، والتي حوتها ذاكرته الحادة، التي أسعفته أن يستعيد الوقائع التي سمع عنها ورآها في الطفولة وميعة الصبا، بعد مرور عقود من الزمن، ويعيد إنتاجها في سرد بديع، يزاوج بين ثراء المضمون الاجتماعي وعمق الموقف والرؤية وبين جمال اللغة ومتانتها.

اقرأ أيضاً:

أصناف أهل الكتابة

اضغط على الاعلان لو أعجبك

قنديل أم هاشم

كيف نظر الأبنودي لعمل المرأة

كيف وصف نجيب محفوظ ملامح أحياء مصر؟

وقد عرفت هذه المزية عن محفوظ، ففاض كثيرون بمدح ذاكرته، التي استطاعت أن تحتفظ بملايين الصور والحوارات والتعليقات، التي عايشها في انخراطه العارم في تيارات الحياة المتلاطمة، حيث تنقل بين أماكن عدة، وخالط أصحاب حرف ومهن مختلفة،

وزامل وصادق أشتاتا من البشر، وتماثل مع الناس في كثير من سلوكياتهم، وكان يتعمد دوما أن يمعن النظر في كل ما يدور حوله، ليستخلص فكرة، ويستلهم حكاية، ويتدبر حكمة، ويحفظ معاني ومصطلحات، ويدرك إيماءات وإيحاءات، ويتكهن بما يدور في طوايا البعض ونواياهم.

وعلى التوازي مع السياق السياسي الاجتماعي الذي حفلت به أعمال محفوظ، ساعدته ذاكرته على أن يُضفر الزمان بالمكان، فيرسم ملامح أحياء مصر التي عاش فيها، بدءا بحي الجمالية في الحسين الذي ولد فيه، إلى حي العباسية، الذي انتقل إليه مع أسرته في شبابه، وانتهاء بحي العجوزة الذي انتقل إليه فيما بعد.

وبين هذه الأماكن الرئيسة، عرض محفوظ العشرات من الأماكن الفرعية أو الثانوية التي مر بها، في القاهرة حيث أحيائها القديمة والجديدة. وفي الإسكندرية، التي كان ينتقل للعيش فيها خلال فترة الصيف، والتي مثلت المكان المركزي في  روايتيه “”السمان والخريف” 1962 و”ميرامار” 1967، وظهرت بصورة أقل في رواية “الطريق” 1964، وقصة “دنيا الله” 1962.

نجيب محفوظ وقسوة الذكرى

19 2020 637343938783908022 390 - ذاكرة نجيب محفوظ

ومما ساعد ذاكرة محفوظ على أن تبقى دوما متوهجة أن الرجل كان يجيد فن الإصغاء، فيجلس إلى الناس، يسمع أكثر مما يتكلم، حتى وصل الأمر به إلى أن استقى مما سرده على مسمعه أحد تلاميذه عن تجربة سجنه رواية كاملة هي “الكرنك” 1974،

وعلى غرارها حول الكثير مما سمعه من “حواديت” الطفولة وحكايات الأصدقاء في المكاتب الوثيرة، وثرثرة العوام على المقاهي وفي الحوانيت والشوارع إلى قصص عديدة، جعلت أدبه يشكل رافدا مهما لمعرفة تاريخ مصر الاجتماعي، بقدر ما هو تشكيلات جميلة، تحفل بلغة عامرة بالبيان، ولوحات وصور إنسانية محتشدة بالمعاني.

ولفت هذا الأمر انتباه ناقد ومفكر كبير هو إدوارد سعيد، فكتب في مقال أثير له وسمه بـ”نجيب محفوظ وقسوة الذكرى” ما يفيد بأن عالم محفوظ مليء بالحيوية، ويصخب بالحركة الدائبة، إلى الدرجة التي تجعل رواياته ليست مجرد كلمات متجاورة، بل صور متتابعة، ترسم أمام أعيينا مشاهد حية، بلحمها وشحمها، وكأننا أمام فيلم سينمائي، نستمع فيه إلى صوت كل الأشخاص، وأصوات الذكريات القادمة من جوف الزمن البعيد.

كيف تعامل نجيب محفوظ مع آفة النسيان؟

وحتى في العالم الموازي والمتخيل الذي شيده محفوظ كاملا في بعض أعماله مثل “قلب الليل” 1975، و”ملحمة الحرافيش” 1977،  و”رحلة ابن فطومة” 1983، فإنه استفاد مما حوته ذاكرته عن معالم الأمكنة،

وعن ملامح الأفكار الفلسفية التي درسها بكلية الآداب جامعة القاهرة، في إبداع هذا العالم وصناعة تفاصيله، بما يجعل القارئ يعتقد أن ما تحويه هذه الروايات قد وقع على الأرض بحذافيره، وأن كل ما فعله محفوظ هو أنه قد نقل ما جرى، أو أعاد إنتاجه في قالب قصصي.

ويبدو التذكر شيئا طبيعيا بالنسبة لأديب يتعامل مع النسيان بوصفه مرضا عضالا، لا بد للناس أن يشفوا منه، الأمر الذي تجلى في نهايات أجزاء روايته المثيرة للجدل “أولاد حارتنا” 1959، حيث أنهى الجزء الأول بجملة: “لكن آفة حارتنا النسيان”،

وأنهى الجزء الثاني بتساؤل يقول: “لماذا كانت آفة حارتنا النسيان؟”، ثم ختم الجزء الثالث بعبارة: “وقال كثيرون إنه إذا كانت آفة حارتنا النسيان، فقد آن لها أن تبرأ من هذه الآفة، وإنها ستبرأ منها إلى الأبد”.

ثم يعود نجيب محفوظ ليعنون مجموعة قصصية صدرت عام 1999 وحوت قصصا لم تنشر من قبل في كتاب، كان قد أبدعها في مطلع حياته بـ”صدى النسيان”، بعد أن أثبت في عمله الفريد “أصداء السيرة الذاتية” أنه قادر بعد ثماني عقود من الزمن أن يتذكر الكثير من التفاصيل الصغيرة لطفولته المبكرة.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري

مقالات ذات صلة