فن وأدب - مقالاتمقالات

أنا عشقت .. رواية عجائبية عن واقع اجتماعي صعب

في غربته الاختيارية، ترك محمد المنسي قنديل سفح جبل مونتريال وأرسل روحه وذائقته وجزءًا من عقله إلى مسقط رأسه، مدينة “المحلة” الصناعية في وسط دلتا مصر، ليستولد، من الذكريات والمكابدات والرغبة الجارفة في فضح واقع بائس يوشك على الانفجار، بعض وقائع روايته الأخيرة “أنا عشقت” الصادرة عن “دار الشروق” أخيرًا.

مؤلف رواية أنا عشقت

في هذه الرواية حافظ الكاتب على لغته الشاعرية وصوره الحافلة بالمفارقات وسرده المحتفي بالتشويق، مع توالد حكائي عريض لم يلتزم فيه بخط واحد متصاعد بين بداية ونهاية، إنما دخل بنا في تعاريج وفجاج وهو يلهث وراء حكايات وأقدار أبطال العمل، المختلفين في الثقافة والمكانة والطبقة والدور، لكنهم جميعًا يسعون بلا هوادة وراء تطبيب جراحهم التي لم تندمل، ومغالبة ضعف أنفسهم الذي أوقعهم في حفر اجتماعية مظلمة ومزالق أخلاقية موجعة، وجعل بعضهم يهرولون وراء الثأر ممن ظلموهم دون أن يتغلبوا على مخاوفهم الدفينة من المجهول.

لم يذهب قنديل هنا بعيدًا عن عالمه القريب إلى نفسه، والذي مهد له مسربًا وسيعًا في عمله المدهش “انكسار الروح”، ففي الروايتان يتعانق زمانان في مكان واحد، وكأن الأخيرة مجرد متابعة أعمق وأعرض وأجدد للأولى، لا سيما أن البطل في الاثنتين يحمل الاسم نفسه “علي” والصفة ذاتها “طالب بكلية الطب”، وهو في الحالتين شاب حالم نقي يصارع من أجل ألا يفقد براءته وطهره في عالم ينزع إلى التوحش.

نبذة عن رواية أنا عشقت

13183592 - أنا عشقت .. رواية عجائبية عن واقع اجتماعي صعب

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لكن في “أنا عشقت” يغادر البطل مسقط رأسه، ويتوه في شوراع القاهرة، مثلما سبق أن تاه صابر الرحيمي بطل رواية “الطريق” لنجيب محفوظ، بعد أن هبط إلى المدينة ذاتها قادمًا من الإسكندرية للبحث عن أبيه، دون أن يدري أنه يبحث عن نهاية مؤلمة ومخزية.

تنطلق الرواية من نقطة أسطورية لفتاة اسمها “ورد”، ما إن فارقها حبيبها “حسن” على محطة القطار حتى تجمدت مكانها، فانجذب إليها العابرون للفرجة والطبيب للعلاج والضابط لمعاينة الواقعة وموظفو المحطة لإبراء الذمة، الحيل أعيت الجميع، رغم أن بعضهم وقع في هواها.

لم يكن أمام “علي” سوى أن يسافر بحثًا عن الحبيب لعله يعيد إليها الحياة، لينقلب الوضع هنا من “علي” الميت عشقًا في “انكسار الروح” الذي يقول لــ”فاطمة”: “ابرزي لي.. تجلي ذات لحظة.. مسي قلبي بأطراف أصابعك لعله ينتفض وتعود شغافه الميتة إلى الوجيب”، إلى “ورد” التي ما إن يعود إليها حسن الرشيدي حتى تسترد الحياة: “يمد ذراعه ويلفه حول وسطها، يأخذ جسدها الجامد كله في أحضانه، ينقل إليها بعضًا من دفئه وشوقه وتوقه ورغبته وحياته، يحرك يده على ظهرها ليزيد من ضمها إليه، يترك الفرصة لخلاياها حتى تتشرب هذه الدفقة الجديدة من الحياة، بعد برهة يختلج جسدها من جديد، يذوب تصلبه، يرتاح صدرها على صدر حسن ويميل رأسها قليلًا على كتفه”.

رحلة بطل الرواية

لكن كل هذا كان بعد “فساد كل شيء” –حسب المفتاح الأثير لرواية انكسار الروح– فحسن الذي عاد، غير ذلك الذي ذهب، فالانشغال بالسياسة الذي قتل أباه المناضل العمالي لم يلبث أن تسبب في رفته من عضوية هيئة التدريس بكلية الهندسة ودخوله السجن، ووقوعه في حبائل رجل الأعمال “أكرم البدري” الذي يتفق معه على الانتقام ممن ظلموهم، فيأخذه إلى قتل رجل أعمال أكبر يلقب بـ”الحوت”، يشيع أنه يشارك نجلي رئيس الجمهورية في مشاريع عدة، ويقتل خليلته، التي ذاقها حسن أيضًا بعد أن أغواها أكرم وقدمها للحوت ليتلذذ بفض غشاء بكارتها، ويعوضها عنه بمحل أزياء فتح أمامها بابًا وسيعًا للمال والصيت.

لكن هذا ليس كل شيء، فتلك التداعيات توالت في ركاب رحلة “علي” للبحث عن “حسن”، بعد أن حصل على معلومات قليلة عنه من أصدقائه في المحلة، عزوز المهرج، ومحروس الدش المخبر، وعطية الزماني الحلاق.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

قبل أن يرتاد “علي” القطار الذي أخذ “حسن”، يفتح المؤلف نافذة لكل هؤلاء أن يسردوا حكاياتهم مع الغائب والمدينة وقسوة الحياة، ثم تتتابع الحكايات، فنعرف قصة سمية طالبة الهندسة التي غرر بها أستاذها حتى انتفخت بطنها، ولم يكن أمامها سبيل سوى الإجهاض بعد أن تخلى عنها، وراحت تسكنها الحسرات لأنها عرفت علي بعد فوات الأوان، وعبد المعطي عامل المتحف الذي وقع في هوى تمثال لملكة فرعونية، بدت وكأنها “المعادل القديم” لورد، ولم يلبث أن اتهم بسرقتها بعد أن سطا اللصوص على المتحف ودخل السجن، وذكرى البرعي سيدة الأعمال التي كانت عاملة فقيرة في محل بيع ملابس ابتلع البحر أباها الصياد وطمع فيها زوج أمها.

التجمد ميراث القهر

عبارات عن القهر - أنا عشقت .. رواية عجائبية عن واقع اجتماعي صعبيغرق قنديل هنا في تفاصيل دقيقة، ينسج بها معالم “السياق الاجتماعي – السياسي” الذي يحيط بأبطاله، فيبدو إسهابه أحيانًا جزءًا من متن النص، منصهرًا في الخيط الأساسي للرواية أو ملتفًا حول “البؤرة المركزية” لها، وأحيانًا يبدو “حاشية” متخمة بسرد منداح في كل الاتجاهات، يبتعد عن المركز أو العمود الفقري للعمل، الأمر الذي يجعل “أنا عشقت” وكأنها عدة روايات أو حكايات، محتشدة في نص واحد وتحت عنوان موحد.

لولا قدرة الكاتب على إيقاظ التشويق دومًا في ثنايا حكاياته الجزئية بوضع نهاية مثيرة لكل منها، لشكلت هذه المسارب الجانبية، أو تلك النتوءات، عبئًا شديد الوطأة على النص، وربما أصابت من يقرأه بخيبة أمل، وهو يتوقع أن يبذل الكاتب وهو “طبيب” وبطل الرواية وهو “طبيب” أيضًا جهدًا مضنيًا في سبيل فك لغز تجمد الفتاة من فرط الهوى ولوعة الفراق، لا سيما أن الطب النفسي يحدثنا عن “الفصام التخشبي”، الذي يتيبس فيه جسم المريض ويأخذ وضعًا معينًا يظل عليه لساعات أو أيام، وكأنه قد صار تمثالًا، وهو ما حدث لورد، التي يقول عنها الطبيب الشرعي “كل شيء فيها ميت ما عدا قلبها”، والتي رآها جمعة المحولجي في أول لحظة يكتشف أحد تجمدها: “فتاة، صبية، عروس صغيرة، تقف ثابتة لا يتحرك منها إلا شعرها الذي يتطاير مع الريح. تحدق إلى الأمام بنظرة فارغة وعينين تلمعان مع ضوء المصباح”.

هل كان العشق إلا وهمًا؟

ربما أراد الكاتب ألا يضع فتاته في تصنيف نفسي – عصبي معروف أو معهود، وخلق منها “حالة أسطورية” أو “غرائبية” نجح باقتدار في بلورتها حين تمكن من أن يرسم العجب ويوقظ الدهشة في عيون كل من رآوها للوهلة الأولى، وكذلك في الحركات والتصرفات التي قام بها كل هؤلاء وهم يدورون حول “ورد” المتجمدة تحت المظلة في محطة قطار، يهبط فيها “علي” ويقلع منها “حسن” لتبدأ رحلة الأول في تتبع آثار الثاني، فينطرح عالم جديد، وتترى شخصيات أخرى، وتأتي بعجائب أخرى، لكنها من رحم الحياة القاسية، أو من الواقع الذي يطفح دومًا بما هو أغرب من الخيال، حيث الفساد الاقتصادي والعوز الاجتماعي، والاستبداد السياسي، والتردي الأخلاقي، الذي سحبه قنديل في هدوء ونعومة، وأطلقه في كل شرايين الرواية.

فقد الجميع براءته، حتى “علي” الذي أراد أن يهلك دونها، وجد نفسه مضطرًا أن يشارك، مجبرًا، في جريمة قتل، وساق بنفسه القاتل إلى ورد الجميلة الرائعة الطيبة المنتظرة والتي شغف بها، لكنها تتواطأ وتستغرب ما يقول حين يصرخ فيها: “إنه ليس حسن الذي أحببته، إنه قاتل، ليس قاتلًا عاديًا، ولكنه قاتل محترف، يقتل بدم بارد، وربما تكونين أنت ضحيته القادمة”. وهكذا تمت الدورة وانقضى كل شيء.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

مقالات ذات صلة:

بلد العميان .. قصة البصر والبصيرة

بين الصورة والكلمة

يوميات بني مجد .. السفر إلى القاهرة

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري

مقالات ذات صلة