قضايا شبابية - مقالاتمقالات

أخلاقيات الاتصال بين عصري الإعلام التقليدي والرقمي: التباينات، الإشكاليات، الحلول

الجزء الثالث

أشرنا في المقال السابق من هذه السلسلة أن من ضمن التباينات التي حملها الإعلام الجديد، والتي جلبت معها إشكاليات أخلاقية جديدة لم نعهدها في الإعلام التقليدي، التغيرات التي أصابت طبيعة المتلقي ذاته، وكيف أن ذلك يثير لدينا تساؤلين هامّين، ألا وهما: كيف تحقق هذا التغير؟ وما ملامح ذلك التغير؟

تسعى مقالتنا هذه إلى الإجابة عن هذين التساؤلين لتتبع علل هذه التغيرات، وما سبقها من تغيرات ضربت بنية العملية الاتصالية برمتها، وقد تم الإشارة إليها في المقالين السالفين، وتسببت في خلق إشكاليات أخلاقية غير مسبوقة لا محيص أمام المجتمع من التعاطي معها، حتى يحمي أبناءه من آثارها المدمرة.

خصائص وسمات المتلقي في الإعلام الجديد

إذا ما نظرنا إلى التغيرات التي ضربت طبيعة المتلقي –مع ظهور وسائل الإعلام الجديد– سنجد أن المتلقي لم يعد ذلك المتلقي، الذي يمكن التحكم في الوجبات المعرفية التي تطعمه إياها قناة اتصالية واحدة، أو حتى عدة قنوات اتصالية تقدم نفس الوجبات بنكهات مختلفة، وبالصورة التي تُمكن من بناء معارفه ومفاهيمه وأفكاره وتصوراته، على ذلك النحو الذي يريد مالك تلك القنوات الاتصالية أو المتحكم فيها كما هو حال الإعلام التقليدي، وإنما أصبح ذلك المتلقي الحر، الذي يستطيع أن ينتقي وجباته المعرفية من بين قائمة تضم آلاف وربما ملايين الأصناف، التي تقدم إليه من قبل عدد لا محدود من المنصات والمدونات والمواقع والحسابات والبرامج، وهو ما جعله حرًا تمامًا فيما يقرأ أو يسمع أو يشاهد، وفي المكان الذي يحب، والزمان الذي يهوى، وبالكيفية التي يريد.

دور المتلقي في الاتصال والمشاركة

الاعلام الرقمي 1 1 1024x683 - أخلاقيات الاتصال بين عصري الإعلام التقليدي والرقمي: التباينات، الإشكاليات، الحلولكما أنه لم يعد ذلك المتلقي السلبي، الذي يمتص وعيه ما يمُن به عليه ملاك وسائل الإعلام من معارف أو أفكار أو تصورات، دون أن يكون لديه أدني فرصة لأن يبدي فيما يتعرض له فيها رأيًا، وأنّى له أن يكون له رأي؟! وحتى لو كان له رأي، سواء أكان قبولًا أم كان رفضًا، تأييدًا أم معارضة، اتفاقًا أم اختلافًا، أنى له أن يصل به إلى هؤلاء السادة؟ وحتى إن وصل فهل يرون في صوته صوتًا يستحق أن يُصغى إليه من قبلهم وهم ملاك الحقيقة المطلقة؟!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أما عبر الفضاء الإلكتروني، فالمتلقي يستطيع أن يعلن عن رأيه في التو واللحظة –كتابة وصوتًا وصورة– حول أي محتوى، يحمل معارفًا أو أفكارًا أو أحداثًا في هذا الفضاء الإلكتروني اللا نهائي مما قد يتناهى إلى سمعه أو يقع عليه بصره، حتى لو كان يبث بلغات أخرى، ويدور في بلاد بعيدة عنه، بعدما سهلت برامج الترجمة عبور عائق اللغة، وبعد أن صهرت العولمة “Globalization” اهتمامات الشعوب ووحدت مصيرهم، بل إن ردود فعله على هذا المحتوى قد يصبح –في ذلك الفضاء– أكثر تداولًا وتأثيرًا من هذا المحتوى الرئيس ذاته، لا سيما إذا كان ذلك المتلقي من طائفة المشاهير أو المؤثرين “Influencers”.

الإعلام الجديد ومدى تأثيره في المجتمع

في ظل هذه الهيمنة التي فرضها الإعلام الجديد كان حتمًا على كل المؤسسات الإعلامية المقروءة أو المسموعة أو المرئية، العالمية منها أو المحلية، ذات الإمكانات الهائلة، أو ذات الإمكانات المحدودة، ألا تتخلف لحظة عن ولوج ذلك السوق البشري الضخم، لتعرض بضاعتها فيه، عساها أن تسترد من كعكة الجمهور الذي هجرها شيئًا.

هكذا أضحى محتوى الإعلام الجديد يتشكل مما ينشئه الأفراد والجماعات والمؤسسات والهيئات ومنظمات المجتمع المدني والحكومات، سواء أُنشِئ هذا المحتوى عبر جهد فردي أو حتى عبر مجموعة أفراد بشكل احترافي أو غير احترافي، أو عبر جهد مؤسسي تقوم به مؤسسات إعلامية احترافية مقروءة أو مسموعة أو مرئية، عالمية أو إقليمية أو محلية، أو تم عبر مؤسسات لا علاقة لها بالإعلام من قريب أو من بعيد، لتعبر به عن شيء ما يهم القائمين عليها.

قد يحمل ذلك المحتوى رسائل محايدة، أو رسائل مغرضة، رسائل تسعى إلى التنوير، أو تسعى إلى التضليل، رسائل تلتزم بالأخلاقيات الإنسانية الفطرية السوية، أو تضرب بهذه الأخلاقيات عرض الحائط سعيًا وراء شهرة أو مال أو تحقيق هدف ما لصانعها.

الظواهر التي صاحبت الإعلام الجديد

الاعلام المرئي 1024x683 - أخلاقيات الاتصال بين عصري الإعلام التقليدي والرقمي: التباينات، الإشكاليات، الحلولفي ضوء ذلك، أصبحنا نقف مع الإعلام الجديد في قلب سوق يزخر بمحتوى لا نهائي من الأخبار والمعلومات والأفكار والآراء، والتصورات في شتى مجالات الحياة، على نحو لا يمكن أن يقارن البتة بالمحتوى الذي كانت تقدمة وسائل الإعلام التقليدية ذات المساحات الورقية المحدودة، أو المدى الزمني المقيد بساعات بثها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

بينما يتيح سوق الإعلام الجديد لمليارات الأفراد، وملايين المؤسسات أن يعرض كلٌ بضاعته لمن يريد، بالكيفية التي يريد، وفي الوقت الذي يريد، بما في هذه البضاعة من غث أو سمين، سواء التزم بأخلاقيات الاتصال –أو حتى أخلاقيات المجتمع عامة– أو انتهكها، سواء أكانت غاية هذه البضاعة (المحتوى) غاية ترنو لتحقيق أهداف صانعها على حساب مستهلكي هذا المحتوى، أم كانت غاية عادلة تقيم توازنًا بين مصالحهم ومصالحه.

سلبيات الإعلام الجديد

هكذا، فقد خلق لنا الإعلام الجديد بما حملة من تباينات جمة عن الإعلام التقليدي انتهاكاتٍ أخلاقيةً جديدةً لم نعهدها في الإعلام التقليدي، ناهيك بكون تلك الانتهاكات التي تمارسها الوسائل التقليدية –لا سيما داخل المجتمع الواحد– كانت ثمة سبل لضبطها أو للتخفيف منها عبر مساءلة مالك هذه الوسيلة المعروف من قبل الجميع عن هذا الانتهاك، أو عبر فرض نوع ما من الرقابة القبلية –إن استدعى الأمر– على ما يبثه من محتوى، على نحو يضمن ألا يقع في مثل هذا الانتهاك ثانيًا. وغيرها من السبل التي يمكن من خلالها منع أي من تلك الانتهاكات، أو التخفيف من حدتها.

أما وسائل الإعلام الرقمية، ولكونها تحمل تباينًا واضحًا في خصائص بنية العملية الاتصالية التي تجري في نهرها عن تلك التي تجري في نهر وسائل الإعلام التقليدية، فقد كان من الطبيعي أن تحمل إشكاليات أخلاقية جديدة مغايرة للإشكاليات التي حملتها تلك الوسائل التقليدية، مثل هذه الإشكاليات تحتاج –كما أشرنا في مقالتنا الأولى– إلى رؤية جديدة متكاملة تقدم حلولًا وآليات مبتكرة للتصدي للخطر الذي تمثله، في ظل استحالة أن تتمكن آليات التحكم الأخلاقية في وسائل الإعلام التقليدية من التصدي له.

بعد استعراض أهم أشكال التباين بين بنية الإعلام التقليدي والإعلام الجديد نتناول في المقال التالي الإشكاليات الأخلاقية التي ضربت –نتيجة لهذا التباين– أطراف عملية الاتصال في الإعلام الجديد مقارنة بالإعلام التقليدي، ثم نتناول سبل تلافي هذه الإشكاليات في المقال الذي يليه بمشيئة الله تعالى.

مقالات ذات صلة:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

الإعلام ومشاهد العنف

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. محمود السماسيري

أستاذ الإعلام المشارك بجامعتي سوهاج بمصر حاليا، واليرموك بالأردن سابقا.

مقالات ذات صلة