مقالات

التجربة الجمالية وأخلاقيات الممارسة الكيميائية .. الجزء الثامن

قد يجادل بعض المُنظرين بأن حدود الحرية الفعلية لضمير الباحث العلمي –في الممارسة الواقعية لحرية الاختيار الأخلاقي– كثيرًا ما تتحكم فيها الظروف، ذلك أن وجود الحقوق بصفة عامة، وحقوق الإنسان بصفة خاصة شيء، وتمتع الفرد بهذه الحقوق في هدوء شيء آخر! لكن أيًا كانت العوامل التي تعوق الباحث عن ممارسته لحرية الاختيار الأخلاقي، فمن المهم التأكيد على أنها لا تمثل قيدًا مطلقًا عليه، ذلك أنه لا يوجد أي فرد معزول كالجزيرة في البحر، ومن ثم فبقدر ما يجد الباحث العلمي نفسه معزولًا عن «البر الرئيس» الممثل في ضمير زملائه من العلماء، بقدر ما يسعى بكل تأكيد إلى إقامة جسور «عبر البحر»، وبالعكس، فإن مسؤولية الباحثين العلميين الجماعية أن يسعوا إلى إعادة الاتصال بأولئك المعزولين من أعضاء المجتمع العلمي الدولي وتقديم العون لهم.

خلاصة القول، إن العلم مطالب اليوم بأن يشرح موقفه الأخلاقي، ولن يستطيع العلم أن يتفادى النقاش، ولا ينبغي له أن يفعل، فقد أصبح الرأي العام أدرى بحقائق الأمور وبدأ يقلق على المستقبل ويحرص على معرفة ما يجري في المختبرات، وهو يعرف جيدًا أنه في المختبرات أولًا يجري بناء المستقبل. ولئن كان العلم يتحرك –نظريًا على الأقل– في عالم التجريد المحايد، بحيث نقول أن أنساقه ونظرياته ومعادلاته واستنتاجاته، متحررة بالضرورة من أية قيمة أخلاقية، فإن التكنولوجيا –على العكس من ذلك– تطور تجديداتها وأنماط تطبيقاتها أمام أعيننا، وما ذلك إلا لأن العلم الذي يحسب ويلاحظ ويصوغ النظريات يعمل الآن انطلاقًا من وضع سياسي واقتصادي واجتماعي معين في ذلك العالم. والسؤال الذي يُطرح الآن بقوة في إطار البحث الأخلاقي، هو ما إذا كانت التكنولوجيا –حُلم الأمس وواقع اليوم– ستكون كابوس الغد! دعنا ننظر إذًا في مدى إمكانية قيام نسق أخلاقي للعلم بصفة عامة، وللكيمياء بصفة خاصة، قابل للتعلم والتطبيق في عصرٍ يخضع فيه المارد العلمي لتوجيهات الساسة والمدراء.

ج – نحو أخلاق كيميائية جديدة

يستلزم قيام نسق أخلاقي مقنع وقابل للتطبيق في إطار العلم، أن نبحث أولًا في عوامل أو مسببات ما يمكن أن نسميه «سلوكًا لا أخلاقيًا» مصاحبًا للنشاط العلمي، والمتمثل كيميائيًا –وبالدرجة الأولى– في بث الممارسات والتطبيقات الكيميائية لمقادير هائلة من الجزيئات السامة المدمرة للبيئة والإنسان، دون أدنى إحساس بتأنيب الضمير من القائمين بهذه الممارسات.

لعل أول هذه العوامل العامل السيكولوجي الناجم عما اختزلته التكنولوجيا من أحاسيس ومعان يُفترض أن تكون مصاحبة دومًا –وبقوة– لأي نشاط عدواني، بما في ذلك العدوان على حق الآخرين في بيئة طبيعية خالية من التلوث. فلم يعد العدوان –في ظل التقنيات المطورة التي يتيحها العلم– مُلوثًا لأيدي الإنسان أو مؤنبًا لضميره، ما دام لا يمسه من كثب وفي الصميم كما كانت الحال من قبل، فالسائق القاتل لشخصٍ ما نتيجة إسراعه بسيارته –على سبيل المثال– لا يُسمى «قاتلًا»، حتى لو كان تهوره سببًا مباشرًا لذلك، كما أن مُهندسي إطلاق الصواريخ –بمفهومنا اليوم– ليسوا قتلة، حتى وإن تسببوا في قتل مئات وآلاف من البشر! وبعبارة أخرى، لم يعد العدوان في ظل التكنولوجيا عملًا إجراميًا بمثل ما كانت عليه الحال في الماضي، فالقاتل يظل نظيفًا جسمانيًا وعقلانيًا، والضمير بات محصنا بأحاسيس جديدة تفرضها المسافة الواسعة بين المعتدي والمعتدَى عليه، وهي مسافة تزداد اتساعًا بأدوات العلم والتكنولوجيا.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

من هذا المنظور يبدو لنا طبيعيًا أن نودع نفاياتنا الأنهار مثلًا، فمن ذا الذي يخطر بباله أن يُلوث بركة حديقته فيلحق الضرر بممتلكاته الخاصة؟ ومن جهة أخرى فإن المياه الجارية ستتولى أمر نقل الملوثات إلى أماكن أخرى لا يعنينا أمر قاطنيها في شيء! وتبدو مسؤوليتنا أقل إلزامًا لنا من ذلك عندما يتعلق الأمر بتلويث الهواء، فالرياح السائدة –كما يُدرك كل منا حين ينظر إلى مداخن المصانع– تحمل الأدخنة إلى مناطق غير مناطقنا. وبطبيعة الحال، يُخول كل منا لنفسه حق استغلال الفضاء الجوي الذي لا نهاية له ولا يدعي ملكيته أحد، لنشر أبغض منتجات نشاطه الصناعي. وسوف يتعين انقضاء وقت طويل قبل أن يُصبح مفهومًا يألفه الجميع ما يترتب على الانعكاس الحراري من ارتداد الأدخنة أو الأبخرة التي انطلقت من الأرض إليها، وانقضاء وقت أطول من ذلك قبل أن نتنبه إلى نذر تركز التلوث الجوي في المناطق القطبية! وهكذا.

أما العامل الثاني من عوامل السلوك اللا أخلاقي في مضمار الكيمياء فهو العامل الاقتصادي، المتمثل في سطوة رأس المال والنفوذ البالغ القوة للشركات الدولية العاملة في مجال الإنتاج الكيميائي، إن هذه الشركات بالإضافة إلى ما تُلوح به من إغراءات مادية ضخمة تجتذب النابغين من العلماء والباحثين، وما تتيحه من برامج تمويلية متعددة لإجراء الأبحاث وتطبيقاتها– تمتلك أجهزة دعائية قوية، بإمكانها تمييع المسؤوليات على نحوٍ لم يسبق له مثيل، بحيث تتواصل جهود العلماء لا في إطار مكافحة التلوث وتطبيع العلاقة بين الإنسان والبيئة، وإنما على طريق مضاعفة المد الصناعي أيًا كانت نتائجه. فليس من العسير مثلًا أن يُنكر أرباب الصناعات ذات الصلة بالرصاص حقيقة دوره المؤثر في الإصابة بالتسمم، أو أن ينكر أصحاب مصانع السجائر والتبغ أن منتجاتهم تتسبب في الإصابة بسرطان الرئة. وبالنظر إلى أنه ما من أحد صرعه الموت بعد عند زيارته مركزًا نوويًا، ولا عند زيارته مصنع منتجات كيميائية، فليس من العسير بالمثل على مُروجي الطاقة الذرية أن ينكروا مسؤوليتهم عن أية أضرار بيئية، اللهم إلا في عبارات إحصائية مُرجأة، أي بعبارة أخرى، في عبارات التحلل الجماعي من المسؤولية. وذلك هو صميم المشكلة، ففي حوادث الطريق يستطيع المصاب أن يثبت وجود رابطة واضحة بين حالته والظروف التي أنشأتها، وليس من الصعب أن يسفر البحث عن عزو الإصابة إلى خطأ في القيادة أو إلى خلل تقني، لكن من ذا الذي يستطيع إيجاد رابطة بين مرض ما، وليكن السرطان مثلًا، وبين هذا المنتج الكيميائي أو الإشعاعي أو ذاك الماثل في البيئة؟ إن سبب المرض موزع بحيث يتعذر حصره أو إدراكه إلا في بضع حالات خاصة كثيرًا ما تدخل في نطاق طب العمل (انبعاث مادة خطرة أو تناولها). وعندما يتعلق الأمر بتدهور البيئة العالمية، فإن المسؤولين عن ذلك يبلغ عددهم من الكثرة مبلغًا يتعذر معه التعرف على أيهم!

يتبع…

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال، الجزء الثاني من المقال

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الجزء الثالث من المقال، الجزء الرابع من المقال

الجزء الخامس من المقال، الجزء السادس من المقال

الجزء السابع من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية

مقالات ذات صلة