مقالات

التجربة الجمالية وأخلاقيات الممارسة الكيميائية .. الجزء الثاني

من إبداعات الطبيعة إلى إبداعات المعامل

تجمع الكيمياء على نحو فريد بين جمال ما هو طبيعي وجمال ما هو صناعي، فمن الجهة الأولى تشتغل الكيمياء أصلًا بكل ما تحويه أو تنتجه الطبيعة من مواد ذات أشكال وألوان وتفصيلات دقيقة مميزة. ولا شك أن الإقرار بجمال الطبيعة –بوصفها خلقـًا إلهيًا– من المسائل الراسخة في الدين والميتافيزيقا على حدٍ سواء. حقًا لقد نظر «أفلاطون» إلى موضوعات الطبيعة أنها ظلال أقل جمالًا للماهيات الثابتة والكاملة في عالم المثل، إلا أن هناك شِبه إجماع في الفكر الديني والفلسفي على دونية ما هو من صنع الإنسان في مقابل ما هو من صنع الخالق المبدع.

حتى بالنسبة إلى النفعيين، الذين يرون أن المنفعة أساس التقدير الجمالي وأننا نحكم على الشيء بأنه جميل لأنه نافع، فإننا لا نجد لديهم إنكارًا لجمال الطبيعة، وإنما تأكيدًا وتعدادًا له. خذ مثلًا واحدًا يضربونه: مثال «المضادات الحيوية» أو الضد حيويات (Anti–Biotics)، ذات الشأن العظيم منذ اكتشافها في كفاح البشرية ضد الأمراض، إن جرامًا واحدًا من التربة الخصبة يأوي ويغذي ما لا يقل عن عشرة آلاف نوع من الكائنات الحية المجهرية المنتجة للضد حيويات، ما علينا سوى أن ننعطف إلى الأرض، وأن نمسك فقط بحفنة من وحلها، وسوف نخرج من فحصها بأسلحة جديدة ضد تولد الأمراض ومسبباتها!

كذلك الحال بالنسبة إلى أصحاب النظرة الموضوعية، الذين فصلوا بين الذات الواعية –كونها محورًا لإدراك الجمال وتذوقه– وبين إبداعات الطبيعة، إذ لا نعدم لديهم إقرارًا بأصالة الجمال الطبيعي وتفرده، فلقد ذهب «داروين» –على سبيل المثال– إلى أن جمال الطبيعة لم يُخلق لإرضاء مشاعر الإنسان، لأن هذا الجمال ظهر قبل وجود الإنسان بآلاف آلاف السنين مستقلًا تمامًا عن تجارب البشر الجمالية، بل لعل الأشياء الجميلة التي كانت موجودة قبل ظهور الإنسان كانت أكثر بكثير مما ظل موجودًا بعد ظهوره، فليس من شأن الطبيعة أن تنتج الزهور لتوفير المناظر الجميلة، وإنما لجذب الحشرات التي تتكاثر الزهور بفضلها، ولا من شأنها تنويع الجمال في الصدفيات وعالم المحار والأسماك لإمتاع الإنسان، فهذه المظاهر والأشكال والألوان إنما تتعلق أساسًا بالتولد الذاتي، إلخ. وبغض الطرف عن مدى وجاهة ما تنطوي عليه هذه الرؤية من حجج، لا سيما فيما يتعلق بحداثة الوجود الإنساني على الأرض، إلا أن الأمر المؤكد أنه لا معنى لوجود الجمال في الطبيعة ما لم تكن هناك ذات إنسانية تدركه، ومن ثم تتفاعل معه وجدانيًا، فتصدر في النهاية حكمها الجمالي الخاص والنسبي على الأشياء. وهكذا فإذا كان جمال الطبيعة متجذرًا في الدين والميتافيزيقا، وكانت الكيمياء العلم الأكثر ارتباطـًا بمواد الطبيعة، فجمال الكيمياء إذًا متجذر بالمثل في أنساقنا الفكرية كافة.

من جهة أخرى يمارس الكيميائيون فنًا صناعيًا يحاكي ببراعة إبداعات الطبيعة وتجلياتها الجمالية، بل وربما تجاوزها إلى أشكال فنية جديدة لا تحتويها الطبيعة، أو على الأقل تستغرق وقتـًا طويلًا في إنجازها، وأعني بذلك نشاط الكيميائيين الدائم في رسم البنى الجزيئية، ومن ثم بنائها معمليًا للحصول على مركبات جديدة لم يسبق لها الوجود. حقـًا أن لمعظم هذه المركبات مردودات سلبية ذات آثار تدميرية للبيئة وقاطنيها، إلا أن شغف الكيميائيين الجمالي بها لا يقل –إن لم يكن يزيد– عن شغفهم بتأمل منتجات الطبيعة وجمالياتها. خذ مثلًا فن التركيبات الكيميائية العضوية، هنا تعكس كلمة «فن» سعي الكيميائي إلى منافسة تركيبات الطبيعة ومحاولة تجاوزها جماليًا واقتصاديًا، فهو أولًا لا يعمد فقط إلى إعادة بناء جزيئات المنتجات الطبيعية مهما كانت معقدة، لكنه يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فيعمد أيضًا إلى بناء جزيئات من تصميمه، ورغم الطابع الخيالي لهذه الجزيئات، في الغالب تكون قابلة للمقارنة بجزيئات الطبيعة، ومن ثم يمكن الإضافة إليها أو تعديلها وتطويرها، وهو ثانيًا يستخدم كل ما هو متاح له من أدوات أو خيارات بديلة في المعمل، الأمر الذي يؤدي إلى تجاوز البعد الزمني للتفاعلات الضرورية، ومن ثم إنجاز المنتج العضوي بسرعة تتخطى حدود البطء والرتابة التي تعمل بها كيمياء الطبيعة. وهكذا يتسع مجال التجربة الجمالية في الكيمياء ليشمل التأمل إلى جانب الممارسة، التحليل إلى جانب التركيب، إبداع الخلق الطبيعي إلى جانب روعة المنتج الصناعي.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

 اللا مرئي أكثر جمالًا من المرئي

chemistry - التجربة الجمالية وأخلاقيات الممارسة الكيميائية .. الجزء الثاني

تلك القضية يميل إليها الآن نفرٌ لا يستهان به من كبار الكيميائيين، التي تعكس بجلاء تحولهم عن النزعة الواقعية الساذجة. إن العلم –وفقًا لهذه القضية– يُصادر على وجود الكيانات اللا مرئية، مثل الذرات والجزيئات، لكي يفهم العالم المرئي المحسوس ويخلع عليه المعنى. ومهما بدا الجانب المنظور من الشيء جميلًا أمام العين وممتعًا لها، فإن هذا الجمال وتلك المتعة يزدادان تدريجيًا كلما نفذنا إلى باطنه، ولو بالخيال، كلما تجاوزنا حدود المظهر لكي نذيع السر الموجود داخله، السر الكامن خلف تناسقات الجسم والتماعات ألوانه.

على هذا النحو، نستطيع القول إن قلم الرصاص الموضوع على المنضدة، في نظر الكيميائي نسقٌ عالي التعقيد، فالجزء الرصاصي فيه يتألف من عنصر الكربون في صورته المتآصلة المعروفة بالجرافيت، أما الجزء الخشبي فهو شبكة فائقة التعقيد من البوليمرات الطبيعية (Natural polymers) –أي المركبات مضاعفة الأصل– من عائلة الكربوهيدرات، مثل السليلوز، وكذلك اللجنين (Lignin) المكون غير الكربوهيدراتي للنبات. وبالإضافة إلى ذلك، يُدرك الكيميائي سريعًا ما هو غائب عن الصورة العقلية للمستخدم العادي لقلم الرصاص، فهذه القطعة من المادة ليست صلبة ومتجانسة، بل هي غير متجانسة بالمرة في أي جزء من أجزائها، كما أن ما يبدو لنا صلبًا هو بالعين العقلية للكيميائي شبكة من الذرات المطروحة في الفراغ، والمتماسكة بروابط كيميائية معينة. تلك الصورة التي يعلو بها الكيميائي فوق عالم الإدراك الحسي بمدلولاته الساذجة، فوق عالم اللغة الشيئية العام والمشترك، إلى عالم لغته الخاصة الرمزية التي يكمن فيها منطقه، وكذلك المنطق الداخلي للأشياء.

لم تعد الكيمياء إذًا علمًا للشم والمذاق وتموجات الألوان فقط، بل باتت علمًا للأشباح والفصل الكروماتوجرافي، علمًا يمسك بالواقع من داخله، حيث دفء الإبداع المخفي وجماله المستتر.

جمال التغير .. لحظة عابرة في الديمومة

سنة 1960 عرض فنانو المسرح في برودواي كوميديا موسيقية بعنوان «أوقفوا العالم، أريد أن أتركه» (Stop the wold I want to get off). هذا العنوان يمكن أن يؤخذ شعارًا جيدًا لكيمياء اليوم! ولا غرو، فالعقل الإنساني بطيء جدًا في الفهم والتحليل، في سعيه لأن يخلع على الأشياء معنى. وحين يرمي العلم إلى حل أية مشكلة تواجهه، فهو في حاجة –كخطوة أولى ضرورية– إلى تأمل المعطيات بعناية قبل أن يقفز الحل إلى الذهن، ومن ثم إلى تثبيت الصورة اللحظية العابرة في مجرى التدفق الزمني، إنها العملية السينماتوغرافية للتفكير التي حدثنا عنها الفيلسوف الفرنسي «هنري برجسون» (H. Bergson 1859 – 1941)، واصفًا إياها بالوهم الذي ينحصر في اعتقاد المرء أنه يستطيع التفكير في غير الثابت عن طريق الثابت، وفي المتحرك عن طريق غير المتحرك. لكن العلم –وبعيدًا عن النزعة الحيوية الميتافيزيقية لبرجسون، بل وباعترافه هو ذاته– لا يستطيع أن يسلك مسلكًا آخر، فالمنهج الوحيد له هو المنهج السينمائي، ذلك الانتزاع اللحظي للحركة من صيرورتها المتدفقة بغرض فهمها ودراستها. وربما كان هذا المنهج أكثر وضوحًا في البحث الكيميائي الديناميكي، إذ نجد لدى أصحابه مثل هذا التحريض القوي لإيقاف العالم بغية الإمساك بتلك اللحظة العابرة التي يتفاعل فيها. إن كيمياء اليوم، باستخدامها للكاميرات الليزرية النابضة فائقة السرعة، قد بلغت مستوى زمنيًا بالغ الصغر هو الفمتوثانية، وفي هذا المستوى يمكن للكيميائي –إلى حد كبير– أن يرقب التفاعلات الكيميائية في زمنها الفعلي، الأمر الذي يحمل دلائل قوية على اقتراب الفهم الكامل –نسبيًا– لديناميكيات التفاعل، بالإضافة إلى وظائف عديد من الأنساق والعمليات الجزيئية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لا شك أن هناك مكونًا جماليًا في نشاطٍ كهذا، وعلى نحوٍ تمثيلي ذلك المتمثل في لهفة الرحّالة لزيارة عديد من الأماكن في لحظات، بل واختراق ما هو محظور منها، وما هو محظور بالنسبة إلى الكيميائي ما يحدث في لمح البصر، في تلك اللقطات الفورية المتتابعة لعمليات تكسير وتكوين الروابط الكيميائية، التي باتت تضعه وجهًا لوجه أمام واقع جديد ربما فاق الخيال جمالًا وإبداعًا.

جمال الكيمياء في كونها علمًا للمعقد والبسيط!

Doc P 719936 638285526430940829 1024x576 - التجربة الجمالية وأخلاقيات الممارسة الكيميائية .. الجزء الثاني

على نحوٍ جدلي، يجمع جمال الكيمياء بين النقيضين، بين كونها علمًا للمعقد وكونها علمًا للبسيط والواضح في الوقت ذاته. يتجلى تعقيد الكيمياء في ذلك الكمّ الهائل من الكيانات المختلفة التي تشتغل بها الكيمياء تحليلًا وتركيبًا، إن عدد الجزيئات المعروفة فقط يقترب من عشرين مليونًا. وأي نظام كيميائي لا بد أن يخضع لبارامترات عديدة متداخلة، مثل الضغط، درجة الحرارة، مستوى التركيز والنشاط، طبيعة المذيب، إلخ. بالإضافة إلى ذلك فإن المواد الغريبة أو الرواسب من شأنها أن تُغير تمامًا من ماهية الناتج. أين الجمال إذًا في مثل هذا التعقيد المربك والمنفـّر للعقل؟

ينطوي هذا السؤال على خطأ في الصياغة، فلئن كان التعقيد منفرًا للعقل الكسول، العقل الراكن إلى السكون والدعة، إلا أنه ليس كذلك بالنسبة إلى العقل العلمي، ذلك التواق دومًا إلى حل المعضلات وفهمها. إن هذا العقل يتلذذ بالمعقد، بقدرته المهارية والحدسية على إخضاع المُنفر وفض تشابكاته كيما يكون له في النهاية معنى، هنا بالتحديد تكمن مواطن الإشباع الفني الجمالي للعالِم. بعبارة أخرى، نستطيع تمثيل ذلك النوع من الإشباع الجمالي بمتابعتنا لتداخلات حبكة درامية معينة، وصولًا إلى تلك اللحظة التي تغمرنا فيها لذة التعرف على البطل الذي يحل عقدة الرواية، فذلك بعينه حال الكيميائي حين يعثر على طريق يقوده خارج تلك الشبكة المعقدة من المتغيرات والبارامترات والمعادلات التي يخضع لها النظام الكيميائي موضع البحث.

على العكس مما سبق، تربط الكيمياء على نحوٍ وثيق بين مفهومي النقاء (Purity) والبساطة (Simplicity)، وذلك وفقـًا للفكرة القائلة إن التنقية الشاملة والدقيقة –للكواشف، والمذيبات، والقوارير، إلخ– تؤدي حتمًا إلى تبسيط كل شيء، إذ يمكن حينئذ إعادة الإجراء ووصف خطواته، والأهم من ذلك تفسير نتائجه. إن شعورًا جماليًا عميقًا يكتنف الكيميائي عند تلك اللحظة، وهو شعور مجانس لذلك التبجيل الفيثاغوري للأعداد، فكما هي حال الفيثاغوريين تجاه العدد الصحيح، نجد لدى الكيميائيين ما يشبه الطقس الديني تجاه البساطة، ومن ثم يمكن القول إن هناك بالفعل روحًا فيثاغورية تـُشكل عديدًا من مواضع البحث الكيميائي وتتبطنها. خذ فقط تصورهم لأشكال الجزيئات، إن أي مُلاحظٍ عابر قد يعتقد أن الجزيء يمكن أن يتخذ أشكالًا غريبة تفوق الحصر، ومع ذلك فإن الكيمياء منذ العهد اليوناني مالت إلى اختزال كل الأشكال الجزيئية المتخيلة إلى مجموعة ثابتة من خمسة أشكال هندسية، تلك الجوامد الأفلاطونية: رباعي الأوجه، وثماني الأوجه، وذو العشرين وجهًا، والمكعب، وذو الإثنا عشر وجهًا. ولسنا في حاجة إلى تكرار القول بأن هذه الجوامد، التي نظر إليها «أفلاطون» بوصفها الأشكال الأكثر جمالًا في الوجود، قد حاصرت وما زالت تحاصر البحث الكيميائي حتى يومنا هذا، فقط علينا أن نضيف أنها تعكس بقوة سعي الكيميائيين نحو جمال البسيط، الكامن خلف جمال المعقد. هيا نُفصل قولنا هذا بنظرة أكثر قربًا لعالم الجزيئات الغريب والغامض في روعة وجمال.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يتبع…

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

مهمات فايكينج المريخية

هل يصلح العلم ما أفسده العلم؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية

مقالات ذات صلة