مقالات

التجربة الجمالية وأخلاقيات الممارسة الكيميائية .. الجزء الثالث

ثانيًا: البُعد الجمالي للنماذج الجزيئية

ثمة اتفاق بين الكيميائيين كافة الذين رفعوا أصواتهم حديثًا تأييدًا للقول بأبعاد جمالية لمنتجاتهم، على أن «الجزيئات» –التي بها نبرر الجزء الأكبر من دعاوى الجمال والإبداع الفني في الكيمياء– ليست كيفيات محسوسة تناظر الكيانات المادية التي تنتجها المعامل، بل فقط كيانات مستترة ذات سمات بنائية صورية. ولا شك أن قولهم هذا يقودنا مباشرة إلى دعاوى علم الجمال المثالي في القرن التاسع عشر وما قبله، تلك التي تقصر الجمال على الأفكار أو الموضوعات الذهنية التي لا سبيل للوصول إليها إلا بنشاط العقل الخالص. فهل هناك بالفعل اتفاق –محوره البنى الجزيئية– بين المنظورين: الكيميائي والمثالي للجمال؟

للوهلة الأولى، يبدو أن هناك دعمًا قويًا لفن بناء الجزيئات عند النظريات المثالية، لكن النظرة المدققة من شأنها أن تضعنا في مأزق ينطوي على مفارقة، فالجزيئات –بالتعريف الكيميائي– ليست موضوعات للإدراك الحسي المباشر، ومن ثم تخرج عن نطاق المقولات الأنطولوجية لموضوعات الأحكام الجمالية الخاصة بالمحسوسات. هذا من جهة، ومن جهة أخرى إذا كانت الجزيئات –وفقـًا للنظرة المثالية– محض موضوعات ذهنية، فإن الكيميائيين ليسوا في حاجة إلى النشاط التجريبي المعملي، لأن الخيال الخالق كافٍ بمفرده للوصول إلى موضوعات ذهنية تخضع للحكم الجمالي! وليس هذا بالتأكيد ما يفكر فيه الكيميائيون، فعلى الرغم من استعصاء الجزيئات على الإدراك الحسي المباشر، فهي في تصورهم ليست موضوعات ذهنية خالصة، إنما تنتمي إلى منطقة ما من الوجود المادي لا يمكن النفاذ إليها بالإدراك الحسي، حتى لو كانت إدراكاتنا الحسية مدعومة بالأدوات والأجهزة. وعلى هذا يغدو أمامنا خياران لا ثالث لهما: فإما أن نعترف بأن الجزيئات –لكونها غير قابلة للإدراك المباشر، ولا هي فقط كيانات ذهنية مجردة– ليست موضوعات للأحكام الجمالية، وإما أن نسعى إلى إدخال مقولة جديدة من الموضوعات تشمل الجزيئات بمعناها السابق، وتتيح لنا في الوقت ذاته إخضاعها لأحكامنا الجمالية وفقـًا للمنظور المثالي أو غيره.

على أية حال، يبدو أن الخيار الثاني هو الأبسط والأقرب لتحليلاتنا، فالجزيئات تندرج ضمن ما نُطلق عليه اسم «التركيبات النظرية» أو «النماذج»، التي يمكن أن تؤخذ أنها مقولة جديدة من الموضوعات المفترضة، تشبع الذوق الجمالي للكيميائيين تجاه تلك المنطقة المتوسطة بين المادة والفكر. والحق أن هذه المقولة قد وجدت أول تعيين لها في رؤية «أفلاطون» الجمالية لمكونات الطبيعة، فما وصفه «أفلاطون» في محاورة «تيماوس» بالأجسام الأكثر جمالًا، ليست هي النباتات أو الحيوانات أو البشر، أو أي نوع من تلك الأشياء الطبيعية التي تسعى الفنون إلى محاكاتها، بل هي على العكس من ذلك قوالب البناء الأولية للأجسام الممكنة كلها، ورغم كونها أجسامًا، فإن صغرها البالغ يحول دون إدراكها بالحواس، ومع أننا نقترب منها إدراكيًا بالاستدلال العقلي، إلا أنها ليست كيانات ذهنية خالصة، لعل هذا ما يفسر اشتغال الكيميائيين لعقود طويلة ببناء الجزيئات (أو بالأحرى النماذج الجزيئية) وفقًا لتلك الأشكال الهندسية التي خلعها «أفلاطون» على أجسامه الأولية.

لا يتناقض ذلك مع وجود اعتراضات قوية لدى «أفلاطون» على الفنون التقليدية كافة، مثل الرسم والنحت، بل ووصفه لها بالخداع الوقح، باعتبارها محاولات غير تامة لمحاكاة الأجسام الطبيعية المحسوسة، التي هي بدورها تحقيقات مادية غير تامة لأفكار تقطن عالم المثل، ذلك أن جمال الأجسام الأولية عند «أفلاطون» مرتبطٌ بالضرورة بالجمال الأصلي للأفكار الرياضية عن متعددات الجوانب، أعني بجمال الموضوعات الذهنية المجردة التي يحتويها عالم المثل، ويدركها العقل بالرؤية الكلية المباشرة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كيف يمكن إذًا أن نـُطبق أحكامنا الجمالية على النماذج الجزيئية وفقـًا لمعناها الأفلاطوني – الكيميائي المشترك؟ وبأي منظور يمكن أن نلتمس القيم الجمالية لهذه النماذج بحيث نؤكد أن ثمة تجربة جمالية تكتنف الكيميائي حين يشتغل ببنائها؟

قد نقول أولًا إن القيمة الجمالية للنماذج الجزيئية تكمن في وظائفها التمثيلية أو التوضيحية لأفكار معينة، وهنا نجد أنفسنا بالضرورة قد اتخذنا منظورًا مثاليًا كلاسيكيًا، ففي إطار هذا الأخير يُوصف النموذج الجزيئي بصفة «الجميل» بقدر ما يُمثل بوضوح فكرة جميلة. لكن النظرة المثالية بهذا المعنى تنأى بذاتها عما إذا كان النموذج يمثل جزيئًا موجودًا بالفعل أم لا، فالحكم الجمالي إزاء رسم الطفل لشكل مكعب ورسم الكيميائي لبلورة مكعبة هو حكم واحد، إذ به يكمن جمال الرسم في الفكرة المجردة للشكل الهندسي لا في أي كيان مادي له هذا الشكل. وإذا كان الكيميائيون يزعمون بأن نماذجهم الجزيئية تـُمثل جزيئات حقيقية توجد بالفعل، فقد تكون لديهم أسباب كيميائية لهذا الزعم، لكنهم حينئذ يتجاوزون المعيار الجمالي الأساسي للنزعة المثالية!

ربما أمكننا –في إطار النظرة المثالية ذاتها– أن نبحث فيما إذا كانت درجة «التماثل» أو «السيمترية» (Symmetry) مقياسًا كافيًا لجمال النماذج، وذلك بالطبع وفقـًا لأفلاطون الذي عد تماثل الوصف الرياضي وبساطته مقياسًا للجمال. لكن علينا في هذه الحالة تحديد معنى التماثل بحيث يقتصر فقط على المعنى الرياضي الهندسي، ففي الرياضيات الحديثة تُحدَّد درجة التماثل لموضوع مكاني ما وفقـًا لعدد عناصره التماثلية وأنواعها، أعني وفقًا لما نجريه على الموضوع من إجراءات صورية يجتازها دون تغير، مثل الدوران (Rotation)، والانعكاس (Reflection)، والانحراف (Inversion)، إلخ. وأعلى درجة تماثل لموضوع ما تلك التي نتمكن عندها من وصف شكله على نحوٍ تام بحدود هندسية بسيطة. وبهذا المعنى توصف الأجسام الأفلاطونية –كذلك النماذج الجزيئية بالمعنى الكيميائي– بكونها «جميلة»، وذلك نظرًا لما تحققه من درجة تماثل عالية.

على أن ثمة تصورًا مختلفـًا للتماثل كان السائد عبر تاريخ الفن، لا سيما في المعتقدات الجمالية القديمة الخاصة بفن النحت (Sculpture – Polykleitos) وفن المعمار (Architecture  –Vitruvius)، التي أعيد الأخذ بها من جديد منذ عصر النهضة. هذا التصور يعود بكلمة تماثل إلى معناها الأصلي (Symmetria في اللاتينية، وSyn métron في اليونانية) الدال على الاشتراك في مقياس عام للأطوال. وبهذا المعنى –الذي تحل به الحدود الحسابية محل الحدود الهندسية– يكون الموضوع المكاني متماثلًا إذا كانت أطواله ذات نسبٍ معينة. وعلى خلاف النظرة الأفلاطونية التي عوّلت كثيرًا على الخواص الهندسية في تقديرها للجمال، نجد كبار الفنانين منذ عصر النهضة قد اتخذوا من خواص الجسم الإنساني مقياسًا لما يمكن أن يكون جميلًا –كما فعل «ليوناردو دافنشي» (Leonardo Da Vinci 1452 – 1519) على سبيل المثال– الأمر الذي يبتعد بالأجسام الأفلاطونية، ومن ثم النماذج الجزيئية، عن الوصف الجمالي وفقـًا لمعيار عام يشترك فيه الجميع على حدٍ سواء.

يمكننا كذلك التماس القوة الجمالية للنماذج الجزيئية فيما تؤديه من وظائف رمزية بوصفها جزءًا أساسيًا مما يمكن أن نسميه «لغة العلامة الكيميائية» (Chemical Sign Language). وكان الكيميائيان المعاصران «رولد هوفمــــان» (R. Hoffman) و«بيير لازلــــو» (P. Laszlo) قد تبنيا هذا التوجه في مقال مشترك لهما بعنوان «التمثيل في الكيمياء» (Representation in Chemistry)، إذ وظّفا رؤية الفيلسوف الأمريكي «نيلسون جودمـان» (N. Goodman 1906 – 1998) للإنتاج الرمزي باعتباره محور العلاقة الرابطة بين العلم والفن، إذ يشتغل كلاهما بابتكار عديد من الأنساق الرمزية ذات الوظائف الإشارية المختلفة وتطبيقها وقراءتها. ووفقـًا لهذه الرؤية، لا يغدو علم الجمال محض نظرية عن الجميل، أو حتى عن الأحكام الجمالية، وإنما يغدو بالأحرى نظرية في الفن لغةً، تُصور الفنان من جهة وعالِم الطبيعة من جهة أخرى، كمُبدعَيْن لأنساقٍ رمزية يتجلى الجانب الجمالي فيها بعدسة علماء اللغة. ورغم وجاهة هذه الرؤية، واقترابها من النظرة الرمزية التجريدية كما تجلت عند كل من «إرنست كاسيرر» و«فيرنر هيزنبرج»، فإنها تـُسقط فارقًا هامًا بين نسق الصيغ البنائية الجزيئية في الكيمياء، والمتمثل في مجموعة من الرموز الهندسية أو الأشكال المرسومة المنفصلة والخاضعة لقواعد دلالية محددة، وبين غيره من الأنساق الرياضية المستخدمة في اللغات الخاصة للعلم، التي تـُشبع خاصية الاتصال (Continuity) بين عناصر ملتحمة ولا متناهية العدد يتألف منها النسق! لقد تنبه «جودمــــان» لهذا الفارق فوضع شروطـًا لا بد أن تخضع لها أية لغة رمزية كيما تتسم بالجمال، لعل أهمها أن تكون لهذه اللغة كثافة تراكيبية وسيمانطيقية (Syntactic and semantic density) واضحة، بمعنى أن يحقق النسق الرمزي ترتيبًا رياضيًا تدفقيًا بين حدوده، بحيث يوجد دائمًا حدٌ ثالث بين أي حدين معلومين في النسق. وإذ إننا لا نفترض متصلًا من الجزيئات، لكن فقط كيانات أو حالات جزيئية محددة بوضوح، فإن نسق الصيغ البنائية لا يمكن أن تكون له كثافة تراكيبية أو سيمانطيقية، ومن ثم لا يمكن أن يكون جميلًا بالمعنى الذي قال به «جودمــــان».

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يتبع…

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

الأبعاد الجمالية لأخلاقيات البيئة

اضغط على الاعلان لو أعجبك

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية

مقالات ذات صلة