مقالات

التجربة الجمالية وأخلاقيات الممارسة الكيميائية .. الجزء السابع

ب – الكيمياء بين مقولتي الحياد العلمي والمسؤولية الأخلاقية

الكيمياء فرعٌ من فروع العلم، والعلم نشاطٌ مميز من جملة النشاطات التي يمارسها البشر، التي هي في حاجة إلى مجموعة من المبادئ العامة لتوجيهها بحيث تنتظم العلاقة بين الفرد والمجتمع، لتصل إلى ما نسميه “مستوى القيم الأخلاقية”. وإنه لحبلٌ معلق في الهواء ذلك الذي يسير عليه الإنسان ما بين التوق لإشباع رغباته وبين الاعتراف بالمسؤولية الاجتماعية. وليس من حيوان يواجه هذه المعضلة، فالحيوان إما اجتماعي وإما منعزل، فقط الإنسان وحده هو الذي يطمح في أن يكون الاثنين في واحد: منفردًا في مجتمع! وهنا بالتحديد تكمن صعوبة المشكلة الأخلاقية، أعني كيفية تحديد إطار المسؤولية للفرد إزاء مجتمعه النوعي أولًا، وإزاء المجتمع الإنساني بصفة عامة ثانيًا. هذا من جهة، ومن جهة أخرى إذا كانت المبادئ الأخلاقية العامة تتسم بالثبات والإطلاق، بحيث تصدق بالنسبة إلى الأفراد جميعًا في كل زمان ومكان، إلا أن لكل نشاط إنساني –بما في لذلك النشاط العلمي– أهدافه واهتماماته الجزئية، وهذه الأخيرة تستلزم نسقًا تطبيقيًا نوعيًا ومختلفًا من القواعد الأخلاقية! والحق أنه لا تناقض في ذلك، فالتفاوت القائم بين القواعد الأخلاقية لنشاطات الإنسان المختلفة إنما يرجع أولًا وبالذات إلى أن هذه القواعد لا تمثل “تقريرات” أو “صياغات” للمبادئ الأخلاقية القصوى، بل هي محض “تطبيقات” لتلك المبادئ على بعض الظروف الواقعية لهذه الجماعة أو تلك، فعلى سبيل المثال، كانت المرأة الهندية قديمًا تحرق نفسها بعد وفاة زوجها لكي ترقد إلى جوار شريكها في كفنه، لكننا اليوم –حتى إذا استنكرنا هذه الفعلة– فإننا مع ذلك ما زلنا نُعد وفاء الزوجة لزوجها –حيًا أو ميتًا– فعلًا أخلاقيًا له قيمته. وقد تختلف الشرائع الأخلاقية في حكمها بحق الرجل البالغ في الزواج من واحدة أو أكثر (كأن تُصرح له مثلًا بالزواج من أربع)، لكنها تتفق جميعًا على أنه ليس من حق الرجل أن يتزوج أية امرأة شاء في أي وقت شاء. وربما اختلفت الشرائع الأخلاقية أيضًا في تحديد الحالات التي يكون فيها “الكذب” أهون الشرَّين، لكنها تُجمع –بلا استثناء– على اعتبار “قول الصدق” في الحالات العادية، عملًا أخلاقيًا صائبًا، وهكذا.

على هذا الأساس، يمكن تعريف الأخلاق (Ethics) بصفة عامة بأنها: “نسق من المبادئ العامة والشائعة لتوجيه السلوك الإنساني”.

هذه المبادئ تكتسب عموميتها من كونها قابلة للتطبيق على الناس كلهم في الأوقات كلها، وهي شائعة بمعنى أنها مُعلنة وليست شفرات أو ممارسات سرية، أما توجيه السلوك فيتجلى في استخدامها لأساليب التنفير، أو الترغيب، أو طلب أفعال جزئية في ظروف أحوال متنوعة.

وأما الأخلاق العلمية (Scientific ethics) فيمكن تعريفها بأنها: “نسق من المبادئ النوعية يهدف إلى توجيه سلوك العلماء والباحثين في ضوء أهداف العلم واهتماماته الأساسية”. وتشير كلمة سلوك في التعريف السابق إلى أوجه النشاط العلمي كلها، بما فيها: التجريب، الاختبار، التعليم، تحليل المعلومات وتخزينها ومشاركتها، التمويل، تجهيز فرق البحث، إلخ. أما كلمة العلم فتشمل السياقات الجزئية للبحث العلمي كافة تنظيرًا وتطبيقًا، أعني جملة العلوم المعروفة على اختلاف تخصصاتها. وبصفة عامة يمكن حصر المبادئ النوعية لأخلاقيات العلم في ستة مبادئ تستوحي روح المبادئ الأخلاقية للإنسان عمومًا، وهي:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

 مبدأ الأمانة العلمية (Scientific Honesty)

على الباحث ألا يختلق، أو يُلفق، أو يحاول البرهنة على معلومات غير صحيحة، أو يمزج النتائج الصحيحة لبحثه بأخرى مغلوطة ليُشبع حاجة في نفسه.

مبدأ العناية (Carefulness)

احرص دائمًا –وبقدر ما تستطيع– على تجنب الأخطاء، وتحاشي مواطن الإهمال والتسرع في أوجه النشاط العلمي كلها.

مبدأ الحرية العقلية (Intellectual Freedom)

يجب أن يُسمح للعلماء والباحثين بمتابعة الأفكار الجديدة ونقد القديمة، كما ينبغي أن يكونوا أحرارًا في تبني السلوك البحثي الذي يرونه هامًا وجديرًا بالاتباع.

مبدأ المكاشفة (Openness)

اعمل دائمًا بروح الفريق، وأشرك الآخرين في المعلومات، والنتائج والمناهج والنظريات والمعدات، كيما يكون عملك متاحًا للنقد ويسهل اكتشاف مواطن القصور فيه.

مبدأ الائتمان (Credit)

كن دائمًا مؤتمنًا ومحل ثقة، ولا تنتحل عملًا أو نتائج أو معلومات توصل إليها الآخرون.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

مبدأ المسؤولية العامة (Public Responsibility)

انشر تقريرًا عما توصلت إليه من نتائج في وسائل الإعلام عندما تكون هذه النتائج هامة وذات تأثير مباشر –أو غير مباشر– على حاضر البشرية ومستقبلها، وعندما يصادق على البحث عدد لا بأس به من النظراء في مجال التخصص.

من داخل هذه المبادئ تنبثق بعض قواعد التطبيق المتباينة من علم إلى آخر، فعلى سبيل المثال، يقتضي مبدأ الأمانة العلمية قول الصدق دائمًا، لكن الصدق في علمٍ مهني مثل الطب مثلًا قد يكون خروجًا على عوامل الشفاء، بل وقد يودي بحياة المريض! ومن ثم يغدو الكذب –بهدف رفع الحالة الاستجابية للمريض– فعلًا أخلاقيًا بالمنظور الطبي العلاجي. كذلك الحال بالنسبة إلى مبدأ المكاشفة، إذ يقضي بالإعلان الصادق عن المعلومات والنتائج، وإشراك الآخرين فيها، لكن وفقًا للهدف المبدئي لأي علم عسكري (وهو تحقيق الأمن القومي)، يكون التكتم (Secrecy) فعلًا وطنيًا ضروريًا لتحقيق هذا الهدف النوعي.

ربما كانت المشكلة الأساسية فيما يتعلق بالمبدأ السادس هي ذلك الطلب المستمر والمتنامي على الابتكار التكنولوجي، سواء من أجل الأغراض الحربية، أو من أجل أغراض التوسع الاقتصادي وتطويع الطبيعة وبناء دولة الرفاهية. ففي وضع كهذا، تُثار على مائدة البحث تساؤلات عدة بشأن أخلاقيات العلم والتكنولوجيا والبحوث وتطبيقاتها. وأبرز هذه التساؤلات ذلك الذي يدور بخصوص مقولة الحياد العلمي والتكنولوجي، تلك التي يتخذ منها العلماء وممولوهم ذريعة للتنصل من مسؤولياتهم الأخلاقية تجاه الآخرين من بني نوعهم! وقد نتفق مع المتذرعين بهذه المقولة بأننا إذا نظرنا إلى العلم تجريبيًا على أنه نظام من المبادئ والفروض والمناهج الإجرائية، فإنه ينتمي إلى نفس النوع الذي ينتمي إليه المنطق والفلسفة، أعني كونه مجموعة من القوانين التي تحكم الكون –أو هكذا نتوسم فيها– بغض النظر عن وجود الإنسان المكتشف والمطّور لها (كأن نقول مثلًا إن قانون الجاذبية العامة موجود باستقلال عن وجود الجنس البشري). وإنه لافتراض معقول أن يُقال إن عمل هذه القوانين لن يتغير ولو بمثقال ذرة إذا أفضت حماقات البشر المستمرة إلى اختفاء الحياة على الأرض، ومن ثم فإن أي قانون علمي لا يترتب عليه أية أحكام أخلاقية، ولا يقدم خيارات للخير أو الشر!

غير أنه لم يعد في الإمكان في وقتنا الحاضر أن ننظر إلى العلم والتكنولوجيا نظرة تعزلهما عن المحيط الدولي والمجتمعي الذي يمارَسان فيه، حتى لو أمكن ذلك في أي وقت مضى، ذلك أن معظم البحوث العلمية التي تجري في المجتمع المعاصر إنما تدخل في فئة العلم المُصمَّم لبعض غايات محددة ومقصودة، وهي بالتأكيد ليست محايدة أو حتمية أو عرضية، لكنها ترتبط بآراء محددة يعتنقها المكلفون بهذا العلم، وعلى هذا يمكن الزعم بأن أنشطة البحوث هي التي تكون خيرًا أو شرًا، أو بتعبير أكثر دقة، هي التي تكون خيرًا أو شرًا في دوافعها أو في إجرائها أو في تطبيق نتائجها (وليس فقط النقطة الأخيرة وحدها على نحو ما يجادل به بعض العلماء).

على وجه الخصوص –فيما يشير الكيميائي الإنجليزي المعاصر جون ديكنسون (J. Dickinson)– هناك عدد من المراحل الرئيسة يواجه فيها الباحث العلمي حاجته لممارسة حرية الاختيار الأخلاقي، وأن يراجع باستمرار ما هو في جوهره وجهة النظر الأخلاقية الشخصية، وتظهر أولى هذه المراحل فيما يتعلق باختيار مشروع البحث الذي أعد نفسه للعمل به، أو (عندما يتولى آخرون هذا الاختيار نيابة عنه) قبول أو رفض هذا العمل. أما المرحلة الثانية فتظهر عندما يتوفر عدد من الطرائق المختلفة ذات القيمة العلمية المتساوية لتناول أي مشكلة، وفي الاختيار بين أساليب على درجات متفاوتة من الإنسانية والمسؤولية الاجتماعية والإيكولوجية، ومن ثم فإن الباحث العلمي فيما يتعلق بالمسؤولية البيئية كثيرًا ما يُدعى ليسأل نفسه عن الكيفية التي تمكنه من الإسهام في تحقيق الاستخدام الرشيد العاقل والاقتصادي إلى أقصى حد للموارد الطبيعية، وبخاصة النادرة وغير المتجددة منها، وكذلك عن كيفية التقليل إلى أدنى حد من المنتجات الثانوية الضارة التي لا يمكن تجنبها غالبًا، في أي عملية صناعية أو تجارية. وبعدئذ، يكون على الباحث أن يدرس ثالثًا طبيعة مجالات البحث (مثال ذلك، هل هي حربية أم سلمية؟)، ورابعًا أنواع التطبيق (مثال ذلك، هل هي موجهة إلى أن تُستهلك، أو موجهة إلى أن تُصان؟)، التي يرى أن تستخدم فيها نتائج البحث. ويضرب «ديكنسون» مثالًا لمسألة حرية الاختيار الأخلاقي بموقف أحد الكيميائيين من العاملين في الخدمة المدنية العلمية، الذي يُراد نقله إلى مؤسسة معروفة بأنها تجري بحوثًا عن الحرب الكيميائية، ربما يستطيع أن يقنع نفسه بأن الحرب الكيميائية المقتصرة على صنع قنبلة أكثر تطورًا للغاز المسيل للدموع مثلًا، لازمة للدفاع عن العالم. ومن الجائز أن يقول في قرارة نفسه، من الأفضل أن أكون أنا بدلًا من بعض زملائي المجردين من المبادئ في الإدارة. فإذا قبل النقل فقد يجد في أثناء خدمته أن الحاجة تدعو إلى اختبار ما أعده، وعندئذ يواجه مشكلة ما إذا كان هناك ما يبرر أن يُجري على الحيوانات المستسلمة اختبارات المواد المقصود منها إيذاء عدو بشري، ثم ماذا يكون عليه رد فعله إذا علم أن اختراعه (هو) يُستخدم ضد المدنيين وفي بلده بالذات؟ حقًا إن الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الطيبة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يتبع…

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الجزء الرابع من المقال

الجزء الخامس من المقال

الجزء السادس من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية

مقالات ذات صلة