مقالات

سفينة الحمقى! .. الجزء الأول

«الجاهل يظن أنه حكيم، أما الحكيم فيعرف أنه أحمق» (وليم شكسبير: كما تحبها) (William Shakespeare: As You Like It)

قاربٌ جميل يتمايل ببطء لأعلى وأسفل فوق صفحة ماءٍ هادئة، وأحيانًا بعُنف في خضم أمواج عاتية، ويذهب هنا وهناك دون وجهة نهائية أو مُستقر: طريقة لطيفة لقضاء عُطلة خاصة مميزة، أو للفرار من إحباطات حياتك إلى المجهول. هل تريد حقًا أن تكون حياتك كلها هكذا؟ حسنًا، هذا ما ستناله –كما يخبرنا «أفلاطون»– إذا كنت تعيش في دولة ديمقراطية!

ما مشكلة «أفلاطون» مع الديمقراطية؟ ما سبب اعتراضه عليها نظامًا للحُكم؟ ولماذا بلغ الأمر ذروته بمحاكمة «سقراط»؟ لماذا أُعدم الفيلسوف المُزعج ديمقراطيًا؟ ولماذا تربصت به الديمقراطية الأثينية؟ لماذا كرهته؟ لماذا أرادت التخلص منه في نهاية المطاف؟

كانت الديمقراطية الأثينية –وهي ديمقراطية محدودة تقتصر على نحو عشرين بالمائة من السكان– تتمتع بسمعة عظيمة في ذلك الوقت، وقد ساعدها في ذلك الإعلان الحماسي الذي أطلقه «بريكليس» (Pericles) (المواطن الأول): «دستورنا لا ينسخ قوانين الدول المجاورة، نحن بالأحرى نموذج للآخرين ولسنا مقلدين، إدارتنا تفضل الكثرة وليس القلة. قوانينا تضمن العدالة للجميع بغض النظر عن اختلافاتهم الخاصة، إذا لم تكن للمرء مكانة اجتماعية، فإن التقدم في الحياة العامة يقع على عاتق السمعة بسبب القدرة، ولا يُسمح للاعتبارات الطبقية بالتدخل في الجدارة، ولن يقف الفقر حجرًا عثرة أمام المرء، فإذا كان الرجل قادرًا على خدمة الدولة، فلن يعيقه غموض وضعه. إن الحرية التي نتمتع بها في نظامنا السياسي تمتد أيضًا إلى حياتنا العادية. هناك، بعيدًا عن ممارسة الرقابة على بعضنا، لا نشعر بأننا مجبرون على الغضب من جارنا لأنه يفعل ما يحبه، أو حتى الانغماس في تلك النظرات المسيئة التي لا يمكن إلا أن تكون مهينة»!

لا يبدو هذا رائعًا فقط، بل كانت أثينا بالفعل المجتمع الأكثر ليبرالية وانفتاحًا في عصرها، المجتمع الذي قد نتوقع فيه مكانةً مُثلى لفيلسوفٍ مثل «سقراط». كان «سقراط» مدافعًا صريحًا عن الحقيقة، والصدق الذي لا هوادة فيه، والالتزام بالسلوك الفاضل، فلماذا حُكم إذًا على رجل بهذه النزاهة بالإعدام من الأغلبية الديمقراطية من أقرانه المتحضرين؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

في وقت محاكمة سقراط سنة 399 قبل الميلاد، كان «بريكليس» قد مات منذ ثلاثين عامًا، ووقعت أحداث أخرى كانت أقل ملاءمة للحرية السياسية والتسامح. استمرت الحرب البيلوبونيسية (The Peloponnesian War) –وهي صراع مرهق بين إسبرطة (Sparta) وأثينا– متقطعةً لمدة ثلاثين عامًا تقريبًا، وانتهت بهزيمة أثينا سنة 404 قبل الميلاد وتنصيب حكومة أقلية مؤيدة لإسبرطة، دُعيت باسم «الطغاة الثلاثون» (Thirty Tyrants)، وقد اتسم حكمهم بتنفيذ أحكام الإعدام الجماعية ونفي المعارضين السياسيين. وبعد سنة واحدة فقط، طُرِد الثلاثون وأعيد تأسيس الديمقراطية. وبعد ثلاث سنوات، وجَّه ثلاثة رجال: «ميليتوس» (Meletus)، و«أنيتوس» (Anytus)، و«ليكون» (Lycon)، وجميعهم كانوا جزءًا من حركة المقاومة الديمقراطية المناهضة لإسبرطة، اتهامات ضد «سقراط.«

هكذا تجلت هشاشة الديمقراطية الأثينية. وليس من قبيل المصادفة أن محاكمة «سقراط» جرت في أعقاب الإذلال العسكري والانهيار السياسي والمقاومة. اتُهم «سقراط» بإفساد الشباب واختراع آلهة جديدة. وبمعنى آخر، اتُهم بدفع الشباب إلى انتقاد عادات الدولة ومؤسساتها وتقويض القيم الأساسية للمجتمع الأثيني. يعترف «أفلاطون» نفسه بالأهمية الأساسية للالتزامات السياسية والقانونية في محاورة «كريتو» (Crito)، فهل تستطيع أية ديمقراطية، وبخاصة تلك التي كانت ضعيفة مثل أثينا في ذلك الوقت، أن تتسامح مع العصيان المدني؟

يجادل «سقراط» في أثناء محاكمته بأن ديمقراطية مثل أثينا تحتاج خصوصًا إلى شخصٍ ناقد ومثير للجدل: «وهكذا، يا رجال أثينا، أنا الآن أدافع عن نفسي، ليس من أجل مصلحتي كما قد يتصور المرء، لكن من أجل ما هو أكثر بكثير، من أجل المصلحة العامة، حتى لا تخطئوا بإدانتي في معاملتكم للهبة التي أعطاكم إياها الرب، لأنكم إن قتلتموني، فلن تجدوا بسهولة شخصًا آخر يلتصق بالمدينة كما تلتصق الذبابة بالحصان، لن تجدوا بسهولة شخصًا، على الرغم من كونه كبيرًا وجيد التربية، بطيء بسبب سرعته وحجمه، ويحتاج إلى إثارة باللسع»! من الذي يُحاكم هنا، سقراط أم الديمقراطية الأثينية ذاتها؟

في الكتاب الثامن من «الجمهورية»، يصف «أفلاطون» كيف أنه من غير المرجح أن تكون الديمقراطية حلًا سياسيًا مستقرًا، لأنها توفر الحرية، لكنها تهمل متطلبات إدارة الدولة المناسبة. ولذلك يتنبأ أفلاطون بانهيار شبه مؤكد للديمقراطية وانحدارها إلى الاستبداد، والخسارة الكاملة للحرية. لماذا تنطوي الديمقراطية على إهمال فن الحكم؟ يرى أفلاطون أنه في النظام الذي تكون فيه السلطة السياسية (قراطوس) (Cratos) في أيدي الشعب (ديموس) (Demos)، ليس من المضمون، بل من غير المرجح في الواقع، أن يحصل الأشخاص الأفضل تجهيزًا للحكم على فرصة لإدارة الشؤون العامة. بدلًا من ذلك، سوف تهيمن الأصوات الأعلى، وستُتَّخذ قرارات غير عقلانية، وسوف تتحول الساحة السياسية المعقدة التي تحتاج إلى نظام وإدارة دقيقة إلى سيرك مجنون!

لتوضيح وجهة نظره، يستخدم «أفلاطون» تشبيهه المشهور «سفينة الحمقى» (Ship of Fools): تخيل رحلة بحرية يشعر المسافرون جميعهم فيها بأنهم يحق لهم المطالبة بدفة القيادة. على الرغم من أن القبطان ملاحٌ جيد، إلا أنه لا يجيد إقناع الآخرين بذلك، وأولئك الذين يصرخون بأعلى صوت ويقدمون ادعاءات أكثر ثقة، على الرغم من أنهم لا يعرفون شيئًا عن مهارات الملاحة، سينجحون! وقتئذ يغدو الانضباط والنظام مفقودين، والنتيجة: سفينةٌ بلا هدف، ورحلةٌ عبثية لأناسٍ في حالة سُكر، بدلًا من رحلة عقلانية جيدة التنظيم من النقطة أ إلى النقطة ب.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يؤكد أفلاطون في «الجمهورية» (على لسان سقراط) أننا لا نستطيع دائمًا الاستماع إلى عقولنا الغوغائية عندما نتخذ القرارات نحن المجتمع، يجب علينا أن نميز غرائزنا الأكثر ذكاءً ونقمع غرائزنا الأغبى. وعلى المستوى السياسي، يبدو أن سقراط يشير إلى أن الديمقراطية البسيطة قد تنحدر إلى الخلل الوظيفي والفوضى، وتلك في الواقع إحدى أهم الأفكار الرئيسة في الجمهورية: أن القبطان الحكيم يجب أن يقود سفينة الحمقى!

إن تشبيه «أفلاطون» لنظام الحُكم بالسفينة التي تعج بالحمقى يشبه تشبيهه للكهف في المحاورة ذاتها: سكان الكهف الذين لا يستطيعون رؤية النور هم الحمقى على متن سفينة الحمقى. ومع ذلك، يشير «سقراط» و«أفلاطون» إلى شيء أبعد من المغزى السياسي، إذ يمكن النظر إلى جمهورية أفلاطون أيضًا على أنه مؤلف في علم النفس، إن سفينة الحمقى التي تشغل بال «سقراط» و«أفلاطون» أكثر من غيرها في «الجمهورية» هي ضجيج الأصوات الغبية داخل عقولنا العاصفة، ولكي تزدهر وتعيش جيدًا، يجب على كل نفس بشرية أن تتخذ لنفسها قائدًا حكيمًا.

يتبع…

مقالات ذات صلة:

حكمة الأحمق وحماقة الحكيم

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هذا أكثر ما يرعب المسيطرين على العقول

آدم وسقراط والحديث عن الرغبة واليقظة!

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية

مقالات ذات صلة