مقالات

حكمة الأحمق وحماقة الحكيم .. الجزء الأول

الفلسفة في أبسط تعريفاتها نشاطٌ عقليٌ يبتغي الحكمة، ومع ذلك فإن علاقتها بنقيض الحكمة، أي الحماقة، كانت وما زالت علاقةً جدلية. ربما كان أحد أسباب ذلك أنه على مدار تاريخ الفلسفة لم تكن العلاقة بين الحكمة والحماقة محض علاقة تعارض، بل يبدو أن ثمة نوعًا من الحكمة في الحماقة، على الأقل عند الفلاسفة بعضهم.

نحن نعلم بالفعل أن «سقراط» كان يعترف بأنه لا يعرف شيئًا، ونعلم أيضًا أنه بالنسبة إلى الفيلسوف الصيني «جوانج زي» (Zhuangzi قرابة 369 – 286 ق. م)، ثمة حكمة في التخلي عن السعي وراء الحكمة. لذلك عندما نفكر فيما يعنيه أن تكون حكيمًا، علينا أن نتساءل أيضًا عما يعنيه أن تكون أحمقًا!

لفكرة «الأحمق الحكيم» تاريخ طويل تمتد جذوره على الأقل إلى عهد «سقراط». كان «سقراط» أحمقًا (جاهلًا) وحكيمًا (يعلم أنه جاهل)، ولأنه أحمق وحكيم في الوقت ذاته، فقد كان قادرًا على أن يخدع أولئك الذين يدَّعون الحكمة، وبخداعه لهم، كان بإمكانه أن يثبت أيضًا أنهم حمقى: حمقى أكثر حماقة منه!

الأحمق الحكيم هو الشخص الذي يبدو –في سعيه طلبًا للحكمة– أحمقًا في أعين من يُحاورهم. وفي اليونان القديمة، كان الفيلسوف «ديوجين الكلبي» (Diogenes the Cynic) أكثر شهرة من «سقراط» بحكمته الحمقاء، وقد ورد في إحدى القصص المتواترة عنه أنه سمع تعريف «أفلاطون» للإنسان بأنه كائنٌ ذو قدمين بلا ريش، وهو التعريف الذي تقبلوه جيدًا وقتئذٍ، فما كان منه إلا أن أتى بدجاجة ونتف ريشها، ثم حملها إلى أكاديمية «أفلاطون» وصاح في الحضور: «لقد جئت لكم بإنسان أفلاطون»! وثمة حكاية أخرى سُرِدت كثيرًا، مؤداها أنه كان يتجول في وضح النهار حاملًا مصباحًا، وعندما سأله الناس عما يفعل، قال: «أبحث عن رجل صادق»! ومن غير المستغرب أن «أفلاطون» لم يكن معجبًا بديوجين، بل وصفه ذات مرة بأنه «سقراط الفاقد لصوابه».

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كان «ديوجين» فيلسوفًا يمتزج لديه حب الظهور بكوميديا التهكم والسخرية، وكان لديه وعيٌ حادٌ بحماقة الحياة اليومية، وكان وصف «أفلاطون» له ملائمًا: فقد حاور «ديوجين» مواطني أثينا كما فعل «سقراط»، لكن الطرق التي فعل بها ذلك كانت أكثر تطرفًا. كان مشهورًا، على سبيل المثال، بالاستمناء العلني بحثًا عن الاكتفاء الذاتي، وعندما سُئل عن سلوكه، قال: «ليت فرك البطن يخفف آلام الجوع بهذه السهولة»، وهذا بعينه ما أعلنه «كارل ماركس» بعد ذلك حين قال: «الفلسفة بالنسبة إلى دراسة الواقع مثل العادة السرية مقارنة بممارسة الجنس»!

كان تجول «ديوجين» بمصباحه في أثينا في حد ذاته نوعًا من الأداء: فهو يُظهر نفسه على أنه أحمق (من يحتاج إلى مصباح في وضح النهار؟)، لكنه بصنعه لهذا المشهد يؤكد أيضًا على حقيقة أنه لا يوجد في المدينة بأكملها إنسان مستقيم وصادق! وقد تكررت فكرة الأحمق الحكيم ومصباحه في التقاليد الأدبية والفلسفية كافة في أوروبا، إذ نجدها مثلًا في خرافات القاص الإغريقي «إيسوب» (Aesop’s Fables قرابة 620 – 560 ق. م)، إذ إن «إيسوب» نفسه هو الأحمق ذو المصباح. وعلى الرغم من أن «إيسوب» شخصية تاريخية سابقة على «ديوجين»، فإن حكايات كثرةً في «الخرافات» بمقام إسناد لاحق، ولذا فمن المحتمل أن تكون قصة «إيسوب» مبنية على قصة ديوجين، وليس العكس.

لا تزال خرافات «إيسوب» تُدرّس أنها حِكم أخلاقية، وتُستخدم أيضًا قصصًا للترفيه، بخاصة في مسرحيات الأطفال والرسوم المتحركة. ويُقال إن «إيسوب» قد كتب آلاف الخرافات، وإن لم يُتَحقق من أي منها. ذات مرة، عندما كان «إيسوب» هو العبد الوحيد في منزل سيده، أُمر بإعداد العشاء في وقت أبكر من المعتاد، لذا كان عليه أن يتجول بين المنازل طلبًا للنار، حتى وجد أخيرًا مكانًا يمكنه فيه إضاءة مصباحه. وبما أن بحثه قد أخذه بعيدًا عن طريقه على طول طريق متعرج، فقد قرر تقصير رحلته في طريق العودة ليسلك مباشرة عبر منتدى المدينة، ليصيح به رجل من بين الحشود: «إيسوب، ماذا تفعل بالمصباح في منتصف النهار؟»، فأجاب قائلًا: «أنا فقط أتطلع لمعرفة ما إذا كان بإمكاني العثور على رجل حقيقي»، ثم عاد مُسرعًا إلى المنزل!

تظهر أصداء هذه القصة مرة أخرى في أدبيات العالم الإسلامي، إذ كان الأحمق الحكيم المثالي هو «الملا نصر الدين خوجه» (Mullah Nasreddin Hodja 1208 – 1284) الذي تُنسب إليه شخصية «جُحا»، وهي شخصية يصعب تحديدها تاريخيًا. تقول الروايات بعضها إنه كان تركيًا وعاش في القرن الثالث عشر، ويقول آخرون إنه من العراق، في حين تذهب روايات أخرى إلى أنه كان من أذربيجان أو أوزبكستان أو إيران. وسواء أكان هناك نموذج تاريخي لنصر الدين أم لم يكن، فإن القصص متسقة اتساقًا ملحوظًا، وفيها يتأرجح نصر الدين بين شخصية الحكيم والأحمق، والذكي والمغفل.

ذات يوم كان يعظ الناس بالمسجد، فقال: أيها المؤمنون، هل تعلمون ما سأقوله لكم؟ قالوا: كلا! قال: ما دمتم لا تعلمون، فما فائدة الكلام؟ وقام وتركهم. ثم عاد بعد أيام، وأعاد على الناس السؤال ذاته، فرد الناس قائلين: نعم نعلم. قال: ما دمتم تعلمون فما فائدة الكلام؟ وغادر المسجد. حار الناس في أمره، واتفقوا فيما بينهم إن سألهم السؤال ذاته مرة أخرى أن يجيبه بعضهم بنعم والبعض الآخر بلا، فلما أعاد السؤال للمرة الثالثة انقسم الناس كما اتفقوا، فقال لهم: إذًا فعلى من يَعْلَمْ منكم أَنْ يُعْلِمْ مَنْ لا يَعْلَمْ!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

من جهة أخرى، يبدو أن قصتين عن «نصر الدين» والمصابيح تدينان بشيء ما لحكاية «ديوجين»، وهاك الأولى: «أستطيع أن أرى في الظلام»، هكذا تفاخر «نصر الدين» ذات يوم أمام الناس، فسأله أحدهم: «إذا كان الأمر كذلك، فلماذا نراك أحيانًا تحمل مصباحًا في الشوارع؟» فرد قائلًا: «فقط لمنع الآخرين من الاصطدام بي»! أما القصة الثانية، وهي الأكثر شهرة، فمؤداها أن أحدهم رأى «نصر الدين» يبحث عن شيء ما على الأرض، فسأله: ماذا فقدت يا مُلا؟ قال «مفتاحي»، فجثا كلاهما على ركبتيه بحثًا عنه. وبعد مدة سأله الرجل: أين أسقطتها بالضبط؟ فأجاب المُلا: في منزلي. فسأله الرجل مرة ثالثة: إذًا لماذا تبحث عنه هنا؟ فأجاب: هنا ضوءٌ أكثر من داخل منزلي!

قد تكون هذه القصص موروثة عن حكايات «ديوجين» وقد لا تكون، لكن بتكرار مجاز الأحمق الحكيم ومصباحه، يبدو أنها مدينةٌ بشيء ما للحكاية اليونانية. وقد عُثِر على استعارة أكثر اقترابًا في المجلد الخامس من ديوان «المثنوي» (Masnavi) للصوفي «جلال الدين محمد الرومي» (1207 – 1273)، المعروف اختصارًا باسم «الرومي»، في القرن الثالث عشر.

في حكاية الرومي، يظهر قديس يتجول في السوق ومعه مصباح مشتعل، وقلبه مليء بالحب والحماس الروحي، فقال له رجل فضولي: يا فلان، ما الذي تطلبه عند كل دكان؟ لماذا تبحث (عن شيء ما) بمصباح في وضح النهار؟ يستجيب الصوفي بسلسلة غريبة من الصور الرمزية، فيقول إن سائله لا ينشغل إلا بالزبد الظاهر، فيفتقد معنى البحر! ويقول إنه فقط عندما نتمكن من رؤية ما وراء رغوة المظاهر السطحية، يمكننا أن ندرك الحقائق الأعمق تحتها، ونحرر أنفسنا من النفاق:

فإن تطلب اللؤلؤ، عليك بالغوص في عمق البحر، فما على الشاطئ غير الزبد!

وعين البحر شيء وزبده شيء مختلف، فاترك الزبد وانظر لعين البحر!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يتبع…

مقالات ذات صلة:

الحكيم يعرف أنه كابوس

نظرية الأحمق الأعظم!

لا تحجب شمسي بظلك

اضغط على الاعلان لو أعجبك

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية

مقالات ذات صلة