فن وأدب - مقالاتمقالات

رواية الجوع

إذا كنت تقرأ لأول مرة رواية الجوع للنرويجي كنوت هامسون –الحاصل على نوبل سنة 1920 والمتوفى سنة 1952 عن 93 سنة– فقد تشعر أنك لم تقرأ رواية مثلها من قبل.

أحداث الرواية

الروائي العبقري يحكي عن الفقر المدقع الذي تعرض له لفترة طويلة من الزمن، وكيف دمر كرامته وصحته بفعل الجوع المستمر والإهانة والمعاناة المستمرة بدنيًا ونفسيًا.

حتى أنه لم يعد يقدر أن يخبئ فقره وبؤسه عن الأعين في الطرقات، وهو بهذا الوجه الشاحب والخدين الغائرين والملابس الرثة، فتارةً ينظرون إليه على أنه متسول، وتارة على أنه مخبول مع أنه يحمل هذا القلب النبيل والعقل المثقف والنفس الحساسة.

الكاتب الشريف والطفلة المسكينة

جاءت لحظة كان جالسًا إلى المقهى يتضور جوعًا وليس في جيبه أية نقود، وظهرت طفلة تتسول، فرق لها قلبه، ووضع يده تلقائيًا في جيبه وهو ينادي الطفلة، قبل أن يتذكر أنه لا يملك نقودًا.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لكن الطفلة الصغيرة لم تنتظر حتى يضع يده في جيبه، بل انصرفت عنه مباشرة غير مصدقة أن هذا الفقير المعدم يمكن أن يكون في جيبه شيء من النقود.

شعر هو بقمة المهانة لعدم تصديق حتى الطفلة المتسولة أنه سيعطيها وأن في جيبه مالا، فقام يناديها، فقد كان مهمًا له أن يراها تصدق أنه يمكن أن يعطيها، حتى لا يعود بهذه الإهانة الأليمة.

لكن الطفلة هربت منه مسرعة خائفة، وتجمع الناس حوله ليمنعوه من الوصول إلى الصغيرة، ظنًا منهم أنه متشرد مخبول وأنه قد يؤذيها، مما ضاعف من إحساسه بالإهانة.

جاء الشرطي فسأله بغلظة: “مالك والطفلة المسكينة؟”، قال: “كنت أريد أن أعطيها شيئًا”، فنهره الشرطي وسبه والناس ينظرون إليه بمكر واستهزاء ضاحكين، وهو الكاتب المثقف الشريف الصادق النوايا والطيب القلب.

كنوت هامسون في عالم التشرد والفقر

beggar - رواية الجوعكان يهرب من صاحبة البيت الذي يستأجر فيه غرفة حياءً من نظرتها، وقد تأخر في دفع الأجرة، وكان يتعلل بأنه كاتب وأن الإلهام قد يتأخر عنه، وهو في الحقيقة كان لا يقدر على الكتابة بسبب الضعف والجوع، ويعدها أنه عندما ينشر مقاله الجديد سيوفيها الأجرة وزيادة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لكنها كانت لا تصدقه، وكانت تصيح في وجهه غاضبة تكيل له السباب وتستهزئ به، وعندما طردته مباشرة من البيت ليلًا في شتاء بارد لم يستطع أن يتحرك ليخرج، خوفًا من الموت بردًا في الخارج وهو بهذه الأسمال البالية، هذا بخلاف تضوره من الجوع.

حتى مدير الجريدة الوحيدة التي نشرت له بعض المقالات صار يتهرب منه، ويوصي السكرتير ليقول له إنه غير موجود، فقد فشل مرارًا في كتابة مقال جيد بسبب الجوع وضعف التركيز –مع أنه سيحصل لاحقًا على نوبل في الأدب–.

وصف للبؤس المدقع

عندما حصل مرة على بعض المال، أعطاه كله لبائعة الفطير الفقيرة الجالسة على الرصيف إشفاقًا عليها، وهي التي تسعى بكد لتكفي عيالها.

لكنه حين كان يتضور جوعًا ذات يوم رفضت نفس المرأة أن تعطيه الفطير ليسد جوعه إلا بشق الأنفس، ورغم ما أغدق عليها من قبل من مال وفير.

من شدة الجوع اضطر إلى نزع أزرار سترته متصورًا أنه يستطيع بيعها بثمن يحصل به على رغيف أو حتى نصف رغيف خبز يدسه في فمه، لكنه قوبل بالاستهزاء بسبب ذلك.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فكر في صديق عرفه مرة وهو الآن يعمل في بنك، فانتظره أمام البنك حتى ظهر، فقدم إليه الأزرار وقال له: “ادفع لي فيها أي ثمن، فأنا الآن جائع وهي أزرار ذهبية اللون لامعة!”.

لكن صديقه أخرج له حافظته ليريه أنها خاوية، وأنه خسر نقوده ليلة أمس في سهرة لهو، وأراد الصديق أن يرد له الأزرار لكنه خجل من أن يستردها منه، وقال له: “اعتبرها تذكارًا من صديق قديم”.

اقرأ أيضاً: “في كل أسبوع يوم جمعة”.. رواية عن أوهام العالم الافتراضي

اقرأ أيضاً: عالم بدون أديان

اقرأ أيضاً: المعطف.. قصة وطن!!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

مساوئ المادية

عاد وهو يجهش بالبكاء لا يستطيع أن يفسر سوء حظه في الحياة، وليقضي بقية الرواية بسترة بلا أزرار في هذا البرد القارس.

الفتاة الوحيدة التي شعرت به في الحياة وكادت أن تحبه تراجعت بعد أن اكتشفت مقدار بؤسه، وبدلًا من أن تمنحه قلبها أرسلت إليه عشرة ريالات تتصدق بها عليه، مما صدمه وكاد يودي به إلى الجنون.

الرواية تصور كيف صار العالم ماديًا وصار الناس بشعين، وأنه في انشغال الجميع بحثًا عن المال ضاعت الإنسانية وحلت القسوة وانعدام الإحساس أو التفكير في مشاعر الفقير.

الرواية كلها وصف لجوع المؤلف، فهي سيرة ذاتية له تصف عذابه بسبب الفقر، لذلك لم يطلق اسمًا على البطل، بل يعبر عنه بلفظ “أنا”، ليتأكد القارئ أنه يحكي عن نفسه، لكنه أراد أن يعلّم الناس –باستغلال تجربته القاسية– أن يكونوا إنسانيين.

الهروب من المدينة القاسية

479552 - رواية الجوع

تنتهي الرواية عندما وجد باخرة تستعد للإبحار، فصعد إليها وهو يرجو رئيس البحارة أن يأخذه معه للعمل على الباخرة، وأنه يعده في مقابل ذلك أن يعمل بطاقة رجلين، وراح يلح عليه يريد الهروب من المدينة القاسية، فقال له البحار فلنجرب.

هكذا رحل وهو يودع المدينة وينظر إلى النوافذ المضاءة ليلًا حيث كل الناس يجدون بيوتًا ودفئًا وطعامًا، لكنهم لم يعودوا بشرًا، ينظر إلى المساكن التي تسطع بالضوء ويقول لها إنه لن يعود إليها أبدًا.

لقد وصف لنا ببراعة كيف تحول العالم إلى المادية القاسية التي أفسدت الذوق والإنسانية، وسلبت من كل شيء معناه.

أمّا عن العامل أو المواطن فيتم دهسه، ولم تعد هناك قيمة للثقافة أو للفقراء أو للمشاعر، ولا توجد آلية لاستغلال المواهب الفكرية.

تفوق التلميذ على الأستاذ

كنوت هامسون تلميذ نجيب للعبقري الأكبر دستويفيسكي، لكن كنوت في هذه الرواية يتفوق على أستاذه، فدستويفيسكي رغم عبقريته ثرثار كبير، لكن كنوت هامسون أبعد ما يكون عن الثرثرة.

الرواية ورغم أنها تصف حالة شعورية واحدة إلا أن الأحداث فيها سريعة، حتى أنك تستطيع أن تقرأها كلها في يوم واحد مع أنها طويلة، وذلك من شدة جاذبيتها وجمال أسلوبها وقوته وسرعة إيقاعها.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ . شامخ الشندويلى

الشاعر والكاتب والسيناريست المعروف

مقالات ذات صلة