مقالات

الهيمنة المادية – الجزء الأول

التعريف والدافع

يعاني العالم من محاولات الهيمنة الكاملة للسياسة والفكر المادي، سواء اقتصاديا أو سياسا وأيضا ثقافيا، حيث وصل الأمر في أماكن كثيرة في العالم إلى الاحتلال العسكري المباشر لبعض الدول، أو الاحتلال غير المباشر باستخدام أساليب الغزو الثقافي والحرب الناعمة. يشترك في هذا النهج من الهيمنة عدة دول وثقافات لها نفس الخلفية الفكرية المادية، حيث تنظر لدول العالم ( الثالث ) نظرة دونية تحتقر فيها ثقافة تلك الدول وتاريخها، وترى أن ثقافتها ومخزونها الفكري هو درب من دروب التخلف، وأن تلك الدول (دول العالم الثالث) هي ملك مشروع لها تتحكم فيها كما تشاء وتبدل وتغير ما يتناسب مع أهدافها وسياستها.

الهدف من وراء تلك النظرة

وهذا ليس من قبيل الصدفة بل إن هذا التحقير والاتهام بالدونية نابع من سياسة، هدفها زرع روح اليأس في أبناء تلك الشعوب وإيقاع الهزيمة النفسية فيهم، معتمدين في ذلك على قوة الآلة الإعلامية التي تحت سيطرتهم التي تثبت تلك النظرة الدونية من جهة ، وتنشر صورة وهمية عن قوة عظمى وتقدم هائل ورقي ثقافي لا يمتلكه أي شعب آخر، مما يدفعهم في أغلب الأحيان لمخاطبة باقي دول العالم الثالث خطاب السادة للعبيد.

فقد حددت المادية العالمية محورًا للنزاع في العالم حول السيطرة على مقدرات الدول الضعيفة، وفرض سيطرة تامة عليها وتقرير مصير تلك الشعوب بل وإبادتها إذا لزم الأمر، ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح من مشاهدة التدخل المباشر أو غير المباشر في الصراعات المختلقة عالميا ، فلا نبالغ لو أكدنا على عدم خلو أي صراع حاليا على مستوى العالم أجمع من تدخل المادية العالمية في هذا الصراع ، سواء بالتدخل المباشر أو الدعم لجهة على حساب جهة أخري مما يكون سبب في استمرار النزاعات العالمية.

ولذلك كله دوافع لابد من الإشارة إليها حتى نفهم خطر هذا الفكر على الإنسان بل على العالم بأسره.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ركائز الفكر المادي

هذا الفكر قائم على نظرة أحادية للإنسان والعالم حيث يري أن الواقع المادي المحسوس هو الواقع الفعلي لا غير ولا يوجد ما يسمى جانب معنوي للإنسان وكل ما هو غيبي هو من قبيل الوهم الزائف، نتج من تلك الرؤية تحديد مفاهيم للسعادة والعيش على كوكبنا، قائمة على اللذة المفرطة وإشباع الشهوات بكل ما يستطيع الإنسان الحصول عليه، فسخرت العلم والتكنولوجيا في خدمة تلك النظرة،

فبدل من أن يستخدم العلم في خدمة البشرية ، حصل العكس؛ فقد تم استخدامه في زيادة السيطرة على العالم، وبدلا من توزيع عادل للموارد ، كان نهب الموارد لصالح الأقوى هو النتيجة، وبدلا من سياسة المنافسة الشريفة، حلت البلطجة العالمية مكان القانون وأصبح الاقتصاد والموارد العالمية تحت سيطرة أفراد وشركات معدودة تدافع وتستفيد من هذا النمط المادي الذي ساد العالم.

ولما كانت اللذة هي الغاية للإنسان كانت الهيمنة والسرقة و الاحتلال هم وسائل تحقيق تلك اللذة، وما دون ذلك من قيم عدل ومساواة واحترام متبادل أصبحت في ظل هذه المادية العالمية جرائم يجب المعاقبة عليها.

كتاب “النظام العالمي الجديد”

ويمكن فهم طبيعة تلك المادية العالمية من خلال كلام ” نعوم تشومسكي” في كتابه النظام العالمي الجديد حول قيام النظام العالمي الحالي للمادية العالمية.
(قام النظام العالمي الجديد على أنقاض الحرب الباردة متفقا على المبادئ “التشرشلية” التي استشهدنا بها من قبل ، على العالم إذن أن يسلم نفسه لتقوده تلك “الدول الثرية” وهى بدورها دول يقودها رجال أغنياء يعتنقون أفكار الآباء المؤسسين للديمقراطية الأمريكية ، تلك الديمقراطية القائمة على مبدأ أن “الشعب الذى يملك الدولة يجب أن يحكمها ” – بحسب جون جى John Jay- وكما لاحظ آدم سميث فإن هؤلاء الرجال يسعون إلى “تطبيق الحكمة السائدة التي يؤمن بها السادة” مستخدمين سلطة الدولة لضمان تحقيق المصالح المميزة لمخططي السياسة الكبار مهما كانت التبعات على الآخرين ،

وقد وضع الأتباع نفس القناع على الوجوه ، وتدثروا بثياب الأعمال الخيرية والتجانس الذى تظاهروا بأنهم يخلعونه على الواقع الاجتماعي ، وعملوا على الإبقاء على ” الغرباء المتطفلين الجهلاء في أماكنهم ” وحالوا دون ولوجهم الحلبة السياسية ، وإن ضمن لهم إجراءات انتخابية يختارون فيها ممثلين عن طبقة رجال الأعمال ، فالواجب ألا تمثل هذه الاختيارات أية أخطار على مسار السيطرة ، ويزيد من سيطرة السلطة الخاصة على سياسة الدولة ، تلك التي تزداد اتساعا على مستوى العالم في وقت تبلغ فيه سلطة المال أهمية لم تبلغها في أى فترة تاريخية سابقة .

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ميركانتلية الشركات

ومع إتمام مثل هذه العمليات؛ زاد التوجه نحو عولمة الاقتصاد وما ترتب عليه من تداعيات أهمها عولمة نموذج الطبقتين وانتقاله من مجتمعات العالم الثالث إلى قلب الدول الصناعية ، كما أصبحت هناك ” حكومة فعلية للعالم” تسعى إلى تلبية مصالح الشركات العابرة للقوميات والمؤسسات المالية التي تعمل بدورها على الهيمنة على اقتصاد العالم .

لقد أصبح النظام العالمي اليوم شكلا من أشكال ” ميركانتلية الشركات ” تتسم فيه التفاعلات والمخططات التجارية المنظمة داخل إطار من العولمة الليبرالية صمم ببراعة حسب حاجات السلطة والأرباح ، ولقى دعما وتمويلا من قبل سلطة الدولة.

في هذا النظام صارت الدول الجائعة ودول العالم الثالث ملزمة بمراقبة مبادئ الليبرالية الجديدة ، وهى مبادئ تتهرب من الالتزام بها الدول الأقوى . كما أدى انهيار الاتحاد السوفييتي إلى إعادة أغلب الدول التي كانت تدور في فلكه إلى مكانها القديم على خريطة العالم الثالث ، لتقدم فرصا جديدة لجنى الأرباح ، وطورت طبقة الأثرياء أسلحتها في حربها الشرسة التي تشنها بلا انقطاع.

اقرأ أيضا:

الحرب الناعمة

إدمان الحياة المادية

اضغط على الاعلان لو أعجبك

المادية هلاك للإنسانية

مقالات ذات صلة