فن وأدب - مقالاتمقالات

عالم بدون أديان

جوناثان هايدت في كتابه الممتع العقل الصالح (The Righteous Mind) يحدثنا عن جدال علمي شهير حول دور الأديان في حياة البشر، هل الأديان هي آفة الشعوب وسبب تخلفها؟ أم الإلحاد سبب تفكك الشعوب وانحدارها؟ كيف يكون العالم إذا اختفت الأديان؟ هل سيسود السلام والحب ويختفي الإرهاب ويزدهر العلم أم غير ذلك؟

يقول الكاتب أن بعد أحداث ١١/٩ بدأ رد الفعل القوي في الغرب بين اليمين الذي حمّل المسلمين والإسلام مسؤولية الحدث العظيم، وادعوا أن الإسلام دين عنيف يحرض على القتل، وبين أقصى اليسار الذي دافع عن المسلمين وادعى أن المتشددين هم المسؤولون، وأن الإسلام دين يدعو إلى السلام، ثم ظهر تيار جديد في اليسار يدعي أن المشكلة ليست في الإسلام كدين، لكن المشكلة الحقيقية في الأديان، وأن المسيحية لا تختلف كثيرا عن الإسلام، وكل الأديان (عدا البوذية) تدعو إلى الحرب والعنف وتقف في طريق العلم والتطور.

ثم تحدث عن ٤ كتب كانوا حجر الأساس لحركة الإلحاد الجديد، ثلاثة كتب كتبها علماء والرابع كتبه صحفي، اهتم صاحبنا بالثلاثة كتب التي كتبها علماء، وشرح بشكل مبسط أطروحة كل كتاب، وسأحاول هنا قدر استطاعتي نقل الأطروحات.

أولا: عالم الأعصاب بنجامين هاريس

هاريس يختبر ماذا يحدث في عقل الإنسان عندما يؤمن بشيء ما، وخص تجاربه على الإيمان بأمور دينية، وباختصار وصل لنتيجة “أن الاعتقاد هو رافعة بمجرد سحبها يتحرك معها تقريبا كل شيء في حياة الشخص”. هاريس يقول إن الإيمان بشيء باطل (مثلا أن الشهيد له ٧٢ حورية) يجعل المؤمن يفعل أشياء مؤذية (عمل انتحاري مثلا). الإيمان يجعل الناس يفعلون أشياء، وإذا كان الإيمان خاطئ فهم قطعا يفعلون أشياء خاطئة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ثانيا: ريتشارد دوكينز عالم الأحياء

والمتخصص في التطور يتكلم عن أن الإيمان بالإله والمخلوقات الخارقة يخلق عالما من الأوهام التي يعيش فيها المؤمنون، الذي في النهاية يدفع المؤمنين لارتكاب أفعال ضارة ومؤذية.

ثالثا: دينيت فيلسوف أمريكي

دينيت يقول من وجهة نظر تطورية بحتة التطور يزيل بلا رحمة أي سلوك يهدر الموارد، بمعنى لو أي حيوان أو إنسان يصنع أي شيء يهدر الموارد ولا يساعده على البقاء وإنتاج أجيال أخرى لا بد مع التطور أن ينتهي هذا السلوك، لأن ببساطة الحيوانات التي لن تفعل هذا السلوك ستنتج أطفالا أكثر، ومع الوقت جيناتها تكون هي السائدة.

وكما هو معروف وكما أقره دوكينز نفسه “لا يوجد أي ثقافة معروفة لا يوجد بها إهدار وقت واستهلاك للثروة عن طريق شعائر دينية.”، وهنا المشكلة، كيف يكون الدين الذي يستهلك الثروة والوقت استطاع أن يصمد كل هذه السنوات؟ لماذا لم يتطور الإنسان جينيا أو ثقافيا ويلفظ الدين؟ وطبعا حركة الإلحاد الجديد سبحت عكس التيار في محاولة لإيجاد تفسير علمي لهذه الظاهرة.

يقولون أن السباق كان بين الأديان، وليس بين الجينات، الأديان التي استطاعت أن تكمل هي الأديان التي اختطفت عقول المتابعين واستخدمتها لصالحها، وجعلتهم يورثون الدين لأولادهم. وهذا سبب أن الأديان ظلت رغم أنها ضد مصلحة البشرية! تماما مثل الطفيليات التي تعيش على دم الضحية، مثل الفيروس الذي يعيش داخل المريض وينتشر باستخدام المريض رغم أنه مضر لصحته!

والحقيقة قدرتهم على ركن التطور على جنب كلما أرادوا وإيجاد تفسيرات أخرى بعيدة عنه قدرة عجيبة ومدهشة للغاية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الأديان ومصلحة الجماعة

المهم يرد على الجماعة دول جماعة آخرين، في دراسة منشورة لاثنين من العلماء Scott Atran and Joe Henrich تتكلم عن رواية مختلفة تماما لكن أقرب لكل البيانات التجريبية، هنا الباحثان يقولان إن الأديان حدث لها تطور لتساعد الإنسان في العيش في مجموعات.

لنتفق أن التعاون، والعيش في جماعات، والارتقاء فوق المصلحة الشخصية، والإيثار وإعلاء قيمة ومصلحة الجماعة، بحيث يتم تقسيم العمل والمشاركة في الإنتاج، هو أحد أهم أسرار بقاء الإنسان وتطوره، لأن ما تستطيع فعله جماعة تعمل سويا هو أضعاف أضعاف ما يستطيع فعله أشخاص يعملون لذاتهم،

ولأن العمل سويا يحتاج إلى الثقة (للمشاركة في الموارد) فإن فعل ذلك بعيدا عن علاقة الدم يكون من الصعوبة بمكان، ولهذا كان للدين أثر قوي في ترابط المجتمعات المتدينة وزيادة الثقة بين أفرادها، وفرض نموذج أخلاقي قوي وعقاب يمنع من مخالفة النظام الأخلاقي، ويسمح بمشاركة الموارد دون الخوف من ظلم البعض.

الكوميونات الدينية والكوميونات الاشتراكية

سيبك بقى من كل الكلام ده، في واحد اسمه Richard Sosis ده راح جمع بيانات لكل الكوميونات (شوية ناس قرروا يعيشوا مع بعض، يشتركوا في الجهد ويشاركوا الإنتاج، ويكون غالبا لهم نموذج أخلاقي مختلف عن المجتمع)، التي أنشئت في القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة وعددهم ٢٠٠ كوميون،

الكوميونات كان منها ما أسس على أساس ديني ومنها علماني (غالبا اشتراكي)، وحاول يشوف قدرة الكوميونات إنها تفضل موجودة بعد إنشائها ٢٠ سنة. الكوميونات تستطيع أن تبقى فقط إذا استطاع أعضاؤها التغلب على الفردية وإعلاء مصلحة الجماعة فوق الفرد، وحل مشكلة الراكب المجاني (free rider problem).

اضغط على الاعلان لو أعجبك

النتيجة أن ٦٪‏ فقط من الكوميونات الاشتراكية العلمانية قدرت تكمل ٢٠ سنة، في المقابل ٣٩٪‏ من الكوميونات الدينية كملت ٢٠ سنة، وبعد النظر للمعلومات استطاع الباحث أن يستنتج أن كل ما كان الكوميون يطلب من أفراده تضحيات أكثر كانت قدرته على البقاء أكبر، على عكس الكوميونات العلمانية، أفرادها كانوا يرفضون بعض الطقوس والتضحيات،

وكانوا دائما ما يسألون عن الفائدة مقابل كل تضحية، وهذا لم يكن موجودا في الكوميونات الدينية، يعني الإيمان والطقوس قدرت تجمع الناس وتخليهم يعلّوا مصلحة المجموعة فوق الفرد، وهذا جعل الجماعة أقوى واستطاعت البقاء لفترة أطول.

فإن قلنا أن الجماعات المتدينة أكثر قدرة على التأقلم وأكثر إنتاجية من الجماعات غير المتدينة، إذًا أكيد هذه الجماعات خلال الـ٥٠ ألف سنة السابقة كان عندها القدرة على استغلال أفضل للموارد يسمح لها بإنتاج أجيال أكثر، وإذًا تكون جينات المتدينين هي التي انتقلت أكثر من جيل إلى جيل، وبكده يكون جينات الدين موجودة في الإنسان الحالي نتيجة التطور (وجهة نظر الكاتب).

هل الدين قوة خير أم قوة شر؟

ثم الكاتب يتكلم هل الدين قوة خير أم قوة شر؟ بيقولك أقل٢٠٪‏ من الأمريكان تدينًا يقدم في حدود ١.٥٪‏ من دخله للعمل الخيري في مقابل ٧٪‏ لأكثر٢٠٪‏ تدينًا، التدين هنا مبني على الحضور للكنيسة -وهو ما يمكن قياسه- وليس الإيمان، بعض الأبحاث تقول أن المتدينين بشكل عام يقدمون أكثر من الملحدين في العمل التطوعي، لكن دائما يكون من خلال أو فقط لمؤسساتهم الدينية.

في كتاب American grace: how religion divides and unites us الكاتب من خلال نقل الكثير من الأبحاث يوضح كيف أن الأمريكيين المتدينين يختلفون عن غير المتدينين، على سبيل المثال هناك ترابط بين حضور الخدمة الدينية والعطاء عموما وليس فقط العطاء للمؤسسة الدينية، بالطبع المتدينون يتبرعون للمؤسسات الدينية، لكن العجيب أنهم أيضا يتفوقون على أقرانهم من الملحدين في التبرع للمؤسسات غير الدينية، ويقضون وقتا لخدمة المجتمع أكثر من العلمانيين حتى في خدمة مؤسسات غير دينية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

على عكس المتوقع أن كل مجهود ووقت ومال المتدينين يذهب إلى المؤسسات الدينية ولا يبقى شيء للمجتمع، المتدينون بعد أن تبرعوا للمؤسسات الدينية ما تبقى للمؤسسات غير الدينية كان أكثر مما يصرفه الشخص العلماني على نفس المؤسسات. يقول الكاتب:

“By many different measures, religiously observant Americans are better neighbors and better citizens than secular Americans, they are more generous with their time and money, especially in helping the needy, and they are more active in community life.”

“من خلال العديد من المقاييس المختلفة، فإن الأمريكيين الملتزمين دينيا هم جيران أفضل ومواطنون أفضل من الأمريكيين العلمانيين، فهم أكثر سخاءً في وقتهم وأموالهم، لا سيما في مساعدة المحتاجين، وهم أكثر نشاطًا في الحياة المجتمعية.”

تجربة شهيرة

الدين كمان بيزود الثقة في التعاملات المالية بين أفراده، في تجربة شهيرة جاؤوا بشخص (شخص رقم ١) وثم نعطيه مبلغا من المال، ونطلب منه إعطاء  شخص آخر (شخص رقم ٢) أي جزء من هذا المبلغ، أي مبلغ يقرر الشخص رقم ١ دفعه يتم مضاعفة المبلغ ثلاث مرات وإعطاؤه إلى الشخص رقم ٢، ثم بدوره يُطلب من الشخص رقم ٢ أن يعيد جزءا أو كل أو حتى لا شيء إلى الشخص رقم ١

وكانت النتائج: حين عرف الشخص ١ أن الشخص رقم ٢ متدين في المتوسط كان يقدم مبلغا أكبر، شخص رقم ٢ إذا كان متدينا كان دائما يرجع مبلغا أكبر من الشخص غير المتدين، من تلك النتائج تعرف أن المجتمعات المتدينة تستطيع أن تنجح جدا في أي تجارة تحتاج ثقة في التعامل وتكون تكلفة المراقبة مرتفعة، مثلا الماس، وهذا سبب سيطرة اليهود عليها مثلا. وده نفس الاستنتاج اللي وصله Richard Sosis لما درس الكيبوتس في إسرائيل. اختتم الكاتب الفصل:

“Societies that forgot the exoskeleton of religion should reflect carefully on what will happen to them over several generations. We don’t really know, because the first atheistic societies have only emerged in Europe in the last few decades. They are the least efficient societies ever known at turning resources (of which they have a lot) into offspring (of which they have few).”

“يجب على المجتمعات التي تتخلى عن الهيكل الخارجي للدين أن تفكر مليًا على ما سيحدث لهم على مدى عدة أجيال. نحن لا نعلم ذلك حقًا، لأن المجتمعات الإلحادية الأولى ظهرت فقط في أوروبا في العقود القليلة الماضية. هم أقل المجتمعات كفاءة على الإطلاق في تحويل الموارد (التي لديهم الكثير منها) إلى ذرية (لديهم القليل منها)”.

وأنا أحب أن أنهي المقال بهذه المقولة لجون لوك، أحد رواد عصر التنوير كتب أن “الوعود والعهود والأقسام التي هي روابط المجتمع البشري، لا يمكن أن تسيطر وتربط الملحد. مع عدم وجود إله، يذوب الكل”.

John Locke, one of the leading lights of the Enlightenment, wrote that: “promises, covenants, and oaths, which are the bonds of Human society, can have no hold upon an atheist. The taking away of God, though but even in thought, dissolves all.”

اقرأ أيضاً:

قراءة في “دليل أكسفورد في الدين والعلم”

العقل والنص

في مفهوم التسامح وسماته

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

مقالات ذات صلة