فن وأدب - مقالاتمقالات

يوميات بني مجد

القراءة والكتابة والكتب الخارجية

في تلك السنوات كان من يجيدون القراءة والكتابة في القرية يعدّون على أصابع اليدين. لم تكن هي من بينهم بطبيعة الحال، فلم يكن البنات يذهبن إلى المدرسة. لماذا يذهبن؟ هل تحتاج إجادة أعمال البيت إلى قراءة أو كتابة؟

كان ابنها قد ضاق ذرعا بالقرية فهجرها واستقر في مصر، بالقرب من سيدنا الحسين. كان يرسل لها بعض المال بين الحين والآخر. كانت متطلبات البيت تزيد كثيرا عن المبلغ الضئيل الذي يرسله الابن. تريد أن تكتب له رسالة، فتذهب إلى ابن أحد الجيران الذي وصل إلى المرحلة الإعدادية. تملي عليه ما تريد فيكتب، لكنها قروية يغلب عليها الشك. تطلب من التلميذ أن يقرأ عليها ما كتب.

تقول: “لم تكتب له أن فتحية تسلم عليه”، يقول التلميذ إنها لم تمل عليه هذه العبارة، فترد قائلة: “بل أمليتها. لا يمكن أن أنسى فتحية، فهي…”. ذات مرة طلبت من التلميذ أن يكتب لها رسالة. أحضر التلميذ المحبرة، وملأ القلم بالحبر وبدأ يكتب: “أمك غضبانة عليك إلى يوم الدين. خسارة فيك اللبن الذي رضعته…”.

أملت عبارات أخرى لا تقل غضبا، ثم قالت: “كفاية كدة”. أرادت أن تعبّر عن غضبها بطريقتها. أخذت المحبرة وسكبت الحبر الذي فيها على الورقة. “هكذا يعرف مدى غضبي عليه”، “لكن يا خالتي، لن يستطيع قراءة شيء”، “اسكت إنت”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

سكت التلميذ، وتناولت هي الورقة الغارقة في الحبر، زرقاء تماما، بلون البحر العميق، ووضعتها في مظروف. توجهت إلى مكتب البريد، وطلبت من الموظف أن يرسل الرسالة.

“أين العنوان يا خالة؟”، سألها.

“ارسل الجواب ده إلى مصر، إلى ابني عبد الحفيظ. هو ساكن في مصر، عند سيدنا الحسين”.

الكتب الخارجية

أما الكتب الخارجية في تلك السنوات فكانت تعد على أصابع اليد الواحدة. كان هناك كتاب وحيد للصف السادس الابتدائي، اسمه “النماذج”، يجمع بين دفتيه المواد الأربع التي يدرسها التلميذ (اللغة العربية، والحساب، والعلوم، والمواد الاجتماعية)، ولأنه يجمع أربع مواد فكان كتابا ضخما.

ألحّ الطفل على أبيه أن يشتريه له، فوافق الأب على مضض، آملا أن يحقق التلميذ أمنية الأسرة وينجح في الامتحان ويصل إلى المرحلة الإعدادية، فيذهب إلى مدينة منفلوط، ويرتدي القميص والبنطلون، مثل المتعلمين القلائل من أبناء القرية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كان الطفل يستذكر دروسه ليلا في المندرة (عليك أن تنطقها بالضاد، لا بالدال)، وهي حجرة تلي باب البيت مباشرة، يستقبل فيها الأب ضيوفه من الرجال. كان الطفل يكتب الواجب على الطبلية عندما دخل رجلان من الأقارب وجلسا على الدكّة.

كانا يتحدثان عن تكاليف الزراعة فاختلفا في مبلغ ما. حاول أحدهما أن يؤكد أنه دفع المبلغ، لكن الثاني لم يقتنع، فما كان من الأول إلا أن انحنى وأخذ كتاب “النماذج” ووضعه على عينيه وهو يحلف: “وحياتك يا مصحف يا شريف دفعت الفلوس”. انتهت المشكلة، وعادت “النماذج” إلى الطفل يستذكر فيها دروس

اقرأ أيضاً:

وداعًا مجانية التعليم

مشاهد من الحياة “السيدة بيرتا والرجل العجوز”

غير المرئيين

اضغط على الاعلان لو أعجبك

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أ.د./ جمال عبد الرحمن

أستاذ اللغة الإسبانية، كلية الآداب والترجمة جامعة الأزهر

مقالات ذات صلة