مقالات

مفهوم السعادة في الفكر الفلسفي اليوناني – الجزء الرابع

ولا يزال حديثنا موصولا حول مفهوم السعادة عند فلاسفة اليونان، فبعد أن تحدثنا عن السعادة وطرائقها عند سقراط، وأثبتنا أن سقراط حكيم اليونان كان يطلب السعادة لذاتها لا من أجل غاية تقوم وراءها، وإنما يبغي السعادة الدائمة المطلقة التي تزول معها كل هموم الإنسان،

السعادة الدائمة الديمومة التي تجعل المرء يستشعر راحة وطمأنينة وهدوءا واستقرارا وسلاما وتوافقا نفسيا ذاتيا، يشعر الإنسان معه بهويته وكينونته الحقيقية، يشعر أنه إنسان بما تحمله هذه الكلمة من معاني الإنسانية، من معاني الحق والخير والجمال، ينعكس ذلك على تعامله مع الآخرين من بني جنسه.

وإذا كان هذا موقف سقراط فهل اقتفى تلاميذه أثره في حديثهم عن السعادة؟ هل سار صغار السقراطيين على نهج أستاذهم؟ أم وظفوا مذهبه في السعادة وفق توجهاتهم وأهوائهم؟ هذا ما سنعرض له.

مفهوم السعادة عند المدرسة الكلبية:

لا تنزعجوا سيداتي وسادتي من هذا المسمى، الكلبية، فهي مدرسة فلسفية أسسها ديوجين الكلبي معلم الإسكندر الأكبر، وكذلك أنتستينز، وسميت بهذا الاسم لأن أئمتها كانوا يقضون أوقاتهم ويدرسون علومهم في ما يشبه الأماكن الخربة ظنا منهم أن هذا هو الزهد والبعد عن ملذات الحياة، ومن شروط الانضمام إلى هذه المدرسة التحرر من كل الممتلكات والأملاك وممارسة الزهد،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لأنك عندما تتحرر من كل شيء ولا تمتلكه لا يمتلكك أحد، ليس هذا وحسب بل كان أنتستينز يطرد المترفين من مدرسته ويجري خلفهم بعصاه، ومن تعاليم الكلبية عدم الاكتراث بمتع الحياة واللا مبالاة وعدم الخوف من الفقر والمرض، وأن الدنيا لا تساوي شيئا عندهم وليست عبارة عن حشد من الأهواء ولا الميول والشهوات،

وأنه لا يمكن بحال من الأحوال الربط بين اللذة والخير، ولا الألم والشر. كذلك لا يعتبرون الفقر ولا المرض عيبا، ولا حتى الانتحار في حد ذاته شرا متى أقدم عليه الإنسان لعدم اهتمامه بالحياة وزهدا فيها، وإنما يعتبر شرا متى أقدم عليه الإنسان لضغوط الحياة وظروف المعيشة، وكذلك لا يعتبرون العبودية شرا، وإنما العبد –حتى وإن كان مستعبدا أو يستعبده أحد– هو حر في باطنه متى صلحت أعماله التي يقوم بها.

سادت هذه النزعة الكلبية في الإسكندرية، فكانوا يحملون الجوال على ظهورهم، ويمسكون العصا بأيديهم ويأخذون الصدقات من الناس أخذ الشجعان ولا يشكرون من يقدمها لهم. أي زهد هذا؟ وأي منطق هذا الذي قامت عليه هذه المدرسة؟ هل هذا زهد أن يعيش الإنسان ويقضي حياته كما تعيش الكلاب؟ أي زهد هذا الذي يبيح التسول والتسكع في الطرقات؟ أليست هذه مغالاة في الزهد؟

الزهد الحقيقي

يا سيداتي وسادتي الزهد الحقيقي أن تزهد في ما في أيدي الآخرين وأن ترضى بكل مقدورات الله لك، وألا تنظر إلى ما ليس لك فيه حق، الزهد أن ترضى بالقليل ولا تقنط وتسعى بين الناس بالفضائل وتبتعد عن كل ما هو رذيل وتهذب نفسك بالقناعة، وتلك فضيلة دعا إليها سقراط، أقول تهذب نفسك الأمارة بالسوء، نفسك الطماعة التي كلما اشتهت اشترت، علمها القناعة ودربها على ذلك، تلك هي السعادة الدائمة التي دعا إليها سقراط من خلال قيمة معرفة النفس وتهذيبها، وتوفيقك بين الجانبين دونما إفراط أو تفريط، أما الكلبية فقد ضلوا الطريق وأضلوا من سار خلفهم، وأرى أن ذلك قتل للنفس، لأن الإنسان له متطلباته التي لا فكاك عنها.

المدرسة القورينائية:

على النقيض، المدرسة القورينائية والتي أسسها تلميذ سقراط أرستيبوس، الذي أسس مذهبا موغلا في اللذة، الإنسان حياته حشد من الأهواء والشهوات والميول ولا ينبغي بحال من الأحوال أن يستحي من إشباعها وممارستها، والإنسان لا بد أن يتحرر من كل صنوف المضايقات التي تصيبه بالكدر والنكد، وأن الإنسان حتى يحقق لذته يعيش اللحظة الحاضرة ولا يهتم بالمستقبل، وإنما حياته الآنية يقضيها مستمتعا بكل ما يحقق لذته وشهواته.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

سقراط لم يدع إلى سعادة حسية وقتية لحظية، سقراط طالبنا بالتوفيق بين متطلبات الجسد ومتطلبات الروح عن طريق إعمال العقل، لكن إذا غلبت اللذة والشهوة على الإنسان فعن أي عقل نتحدث؟ ليس ثمة عقل، حينما ينهمك الإنسان في شهواته لن يكون هناك مكان للعقل، يغيب العقل، لماذا؟

لأن الإنسان اللذوي الشهواني لا يشبع بحال من الأحوال، بل كلما تحققت له لذة يقول هل من مزيد، كشهوة جمع المال مثلا، فالإنسان الذي يكنز مالا لا يكتفي بما كنزه بل بدافع من الشهوة يقول هل من مزيد، وهذا غياب للعقل، ونحن نرفض هذه المغالاة، لماذا؟ لأننا أصحاب عقول نفكر بها، ومن ثم وجب علينا التروي في إشباع مثل هذه الأمور، بل وعلينا من خلال عقولنا الراجحة أن ندرك مآلاتها ستقودنا إلى أين.

وهذه نصيحتي إلى المغالين سواء في الزهد أو في فرط إشباع اللذة والشهوة، لا أقول لا تشتهوا ولا تأكلوا ولا تشربوا، وإنما بروية وتؤدة. ولا أقول لا تزهدوا في ملذات الدنيا ومغانمها ومكاسبها، وإنما لا تفرطوا في الزهد ولا تلقوا بأيديكم إلى الهلاك، ولا تحرموا أنفسكم ولكن طبقوا الوسط العدل المحمود، فلا تميلوا كل الميل إلى جانب وتهملوا الجانب الآخر.

المدرسة الأفلاطونية:

وبعد يا سادة ننتقل بحضراتكم إلى مدرسة أخرى، المدرسة الأفلاطونية، أفلاطون حكيم يونان الذي ظن كثيرون أن الرجل كان مثاليا في فكره ولم يعش الواقع، أفلاطون صاحب الجمهورية الفاضلة، المدينة الحالمة التي طالما حلم بها وحكى لنا حلمه وحاول تحقيقه، أفلاطون الذي حدثنا عن عالم آخر، عالم الحق والخير والجمال، أفلاطون الذي حدثنا عن النفس الإنسانية حال وجودها في هذا الجسد المرذول الذي تحاول أن تتخلص منه، عن طريق تذكرها للعالم الآخر عن طريق إدراكها أن عالمنا هذا عالم الأشباح عالم الظلال، عالم انعدام الرؤية الحقيقية ومانراه ما هو إلا جزء من الحقيقة.

يا أفلاطون أسألك سؤالا افتراضيا، هل لو كنت موجودا بعقلك وفكرك الثاقب هل لو كنت تحيا بيننا هل كنت سترضى عن حالنا؟ هل كنت ستعاود الكرة الإصلاحية التي حاولتها في مجتمعك؟ هل كنت سترضى عن التدني القيمي والانسحاق الحضاري وترك كل ما هو فضيل والإقدام على كل ماهو رذيل؟ أعتقد أنك لن ترضى، وهذا حال كل مصلح في كل زمان ومكان، وهذا حال كل مفكر مهتم بقضايا مجتمعه الذي يعيش فيه.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

عندما نصل للعدالة تحقق السعادة المنشودة

ناقشت السفسطائية ورفضت فكرهم، ورفضت ربط الأفعال بما يترتب عليها من نتائج، ودعوت إلى معرفة الخير الأقصى الذي ينبغي على الجميع معرفته، وحدثتنا عن سعادة حقيقية لا لذة زائلة، وقد اتضح ذلك من خلال حديثك المبهر عن قوى النفس الإنسانية، القوى الشهوية والقوى الغضبية وإن الإنسان حتى يحقق السعادة الدائمة عليه أن يجعل قوته العاقلة تسيطر على هاتين القوتين، الشهوية نهديها عقلا بالعفة والغضبية نهذبها عقلا بالشجاعة، لا شجاعة التهور وإنما شجاعة ضبط النفس عند الغضب.

إذا ما تحقق ذلك تحققت العدالة عند الإنسان وأصبح عادلا مع نفسه، وإذا كان ذلك فإنه سينعكس على الآخرين في المعاملات بين الناس، فلا يسود ظلم وتعم العدالة ويتحقق العدل بين الناس وتتحقق السعادة المنشودة، السعادة التي لا يشوبها ضيق ولا ضجر سعادة الرضا.

سيداتي سادتي أطرح عليكم سؤالا، هل هذا صعب تحقيقه؟ وقبل الإجابة تمهلوا واعرضوا الأمر على عقولكم واستفتوها جيدا وحللوا كل كلمة ذكرتها، هل السعادة الدائمة صعبة المنال؟ هل العدالة صعبة التحقيق؟ ولا تصبوا لعناتكم على الأيام فنحن الذين نصنع الأيام ونعيشها.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اقرأ أيضاً:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الجزء الثالث من المقال

أ. د. عادل خلف عبد العزيز

أستاذ الفلسفة الإسلامية ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان

مقالات ذات صلة