مقالات

مفهوم السعادة في الفكر الفلسفي اليوناني – الجزء الثالث

انتهينا في الجزء الثاني من الحديث عن مفهوم السعادة عند السوفسطائية، وأثبتنا أنها لم تكن سعادة بالمعنى المرجو من هذه الكلمة وإنما هي لذة، وكما ذكرنا أن اللذة وقتية زائلة تزول بزوال المؤثر.

وفي هذا المقال سنحاول أن نقف على المعنى الحقيقي لكلمة السعادة عند سقراط من خلال تصديه لفكر السفسطائية الأخلاقي، وكذلك سوف نحاول أن نتعرف على موقف صغار السقراطيين من فلسفة السعادة، وهل حقا اقتفوا أثر أستاذهم في هذه الفكرة؟ أم أولوا فكره بما يتماشى مع توجهاتهم وفكرهم الخاص؟

وأقصد بصغار السقراطيين المدرسة الكلبية والمدرسة القورينيائية.

كذلك سنحاول قدر استطاعتنا أن نتعرف على فكر أفلاطون الأخلاقي، وهل فعلا كان أفلاطون مثاليا في حديثه عن السعادة؟ أم وظف فكره حول هذا المفهوم لخدمة واقعه المعيش بما يدحض مقولة أن المفكر والفيلسوف يعيشان في أبراج عاجية غير مكترثين بواقعهما ولا مهتمين بمجتمعاتهما التي يعيشان فيها؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

علاقة العلوم الإنسانية بالواقع المعيش

وإن كنا نرى أن المفكر نتاج مجتمعه والبيئة التي وجد فيها، وأنه لا ينفصل بحال من الأحوال عن قضايا مجتمعه التي تفرضها فرضا ضروريا وملحا متطلبات اللحظة المعيشة،

وقد عبرنا عن ذلك تعبيرا دقيقا في قسمنا الفلسفة وعقدنا ندوة مهمة إثراء للدراسات البينية ناقشنا فيها قضايا الواقع المستحدثة أزمة جائحة كورونا، والتي تبارى في الحديث عنها مفكرون من طراز فريد من مختلف الأقسام العلمية بالكلية،

تحدثوا وأثبتوا بما لا يدع مجالا للشك أن العلوم النظرية والعلوم الإنسانية لا تنفصل بحال من الأحوال عن الواقع المعيش، تحدثوا بأسلوب فلسفي راق ومبدع أشاد به جميع الحضور،

مما جعلني أنوي نشر أعمال هذه الندوة في كتاب حتى تعمم الفائدة وتكرر التجربة، لا في قسم الفلسفة وحسب بل في كل الأقسام العلمية بكل جامعات مصر.

تصدي سقراط لفكر السفسطائية

60eccc6e318e5 - مفهوم السعادة في الفكر الفلسفي اليوناني - الجزء الثالثنعود سيرتنا الأولى، ما مفهوم السعادة عند سقراط؟ بداية تصدى سقراط للفكر السوفسطائي على العموم وأبطل نسبية المعرفة وأن المعرفة تعتمد على الحواس فقط،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وكذلك تصدى لأغاليطهم وأباطيلهم وبدأ يشرح الألفاظ الغامضة التي كانوا يملؤون عقول الشباب بها، مستخدما في ذلك منهجين هما التهكم والتوليد،

فكان يدخل في محاورات مع هؤلاء متهكما عليهم ومولدا أفكارا جديدة منهم تتناقض مع أفكارهم التي بثوها في عقول الشباب الصغير، وأبطل فكرة أن الإنسان مقياس كل شيء، مقياس الخير ومقياس الشر، وأبطل رد خيرية الأفعال وشريتها إلى ما يترتب عليها من نتائج.

كذلك رفض المنزع اللذوي الذي دعت له السوفسطائية من أن الطبيعة البشرية مجرد حشد من الأهواء والميول والرغبات، ذاهبا إلى القول أن الإنسان بما هو كذلك يجمع بين جانبين مادي ومعنوي، وعليه بطبيعته العقلية أن يوفق بينهما وأنه بفطرته الخيرة ينقاد إلى فعل الخير متجنبا الشرور، فالإنسان خير بجبلته التي جبل عليها.

اقرأ أيضاً:

الجزء الأول من المقال

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الجزء الثاني من المقال

اعرف نفسك

أجمل ما قال سقراط عن السعادة

مفهوم الفضيلة والرذيلة

ومن آراء سقراط الأخلاقية _التي تثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه من أنصار أن السعادة الحقيقية الغاية المرجوة من حياة الإنسان_ قوله الفضيلة علم والرذيلة جهل، بمعنى علمنا العقلي بالفضائل ومعرفتها حق المعرفة عن طريق التأمل العقلي يجعلنا نقتنيها،

أما جهلنا بمفهوم الرذيلة ومدلولاتها يجعلنا نتجه إليها من غير قصد، ومن ثم وجب أن نعرف الخير حتى نذهب إليه بإرادتنا غير مجبورين على ذلك، وكذلك معرفة الشرور حتى نتجنبها ونبتعد عنها بإرادتنا.

أليس هذا فكرا عقلانيا خالصا يوضح لنا أن الرجل يسعى سعيا حثيثا نحو سعادة حقة عن طريق العلم الذي يدعم ما تقدمه لنا الفطرة الخيرة؟ أليس هذا الرجل من ذوي الفطرة الفائقة؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

السعادة في التلازم بين الحق والخير والجمال

ثم يأتي حديثه الممتع عن مفهوم السعادة ، يقول ظن من ظن متوهما أن السعادة في المال فالمال يفنى، وظن من ظن متوهما أن السعادة في الجمال فكم من جميلة زال عنها جمالها،

وكم كان الجمال طريقا لغاو متهتك قاده ما رآه من جمال مادي إلى ارتكاب الموبقات، الجمال ليس جمال المنظر وإنما الجمال الذي يحقق السعادة ولا أقول اللذة،

السعادة الحقيقية التي ترتاح معها النفوس وتطمئن لها الألباب والعقول، جمال القلوب النقية الصافية الحاضنة التي تضفي بهجة وسعادة على أصحابها وينعكس ذلك على كل من يتعاملون معها، فتحدث سعادة الرضا والمودة والوفاق والتوافق النفسي، والتلازم القيمي بين الحق والخير والجمال. وهذا رأينا نحن.

السعادة أن تكون ذاتك

كذلك يرى سقراط أن السعادة ليست بالحصول على المناصب والمكاسب، فهذه الأمور قد تحقق لذة للإنسان الذي يسعى إليها ولكن ليست هي السعادة الحقيقية المرجوة من حياتنا،

فأعمارنا لا ينبغي علينا أن نفنيها لهاثا خلف هذه المآرب اللذوية، لا ينبغي على الإنسان أن يبيع نفسه عن طريق المداهنة والنفاق والرياء، والأكل على كل الموائد، من أجل ماذا؟

من أجل حفنة دينارات أو دراهم أو حتى كرسي قد يزول _وهذا رأيي أيضا. السعادة الحقيقية، السعادة كل السعادة أن تكون ذاتك، تصير ذاتك، أن تبقى أنت كما أنت، ولا تغير ولا تبدل بل الثبات الثبات، ساعتها ستشعر بسعادة تتمثل في الرضا.

السعادة في معرفة النفس

ثم يوضح لنا سقراط طريقا آخر للسعادة قبل أن تتحدث عنه الأديان، قيمة معرفة النفس، اعرف نفسك بنفسك، وكأن الرجل يخاطب ليس عصره بل كل العصور، قيمة معرفة النفس، فمن عرف نفسه حق المعرفة عاش سعيدا مطمئنا،

ليس هذا وحسب فمن عرف نفسه فقد عرف ربه. ونقول ابدأ بنفسك في معرفة نفسك فإذا ما عرفتها حق المعرفة وهذبتها انعكس ذلك على واقعك المعيش وعلى من تتعامل معهم.

سقراط صاحب الحكمة والفضيلة

socrates - مفهوم السعادة في الفكر الفلسفي اليوناني - الجزء الثالثالحكيم سقراط الذي قال: “أنا لست حكيما”، ولكن نقول له يا سيدي أنت صاحب حكمة وفضيلة، وشاهدي على ذلك حديثك عن الفضائل التي ينبغي علينا اقتنائها والعمل بها،

فضيلة العمل والدعوة إلى العمل وترك اللامبالاة، وكذلك فضيلة الرياضة والتربية البدنية تهذيبا للنفس وتربية للبدن، وكذلك فضيلة القناعة والتي من خلالها يتحقق الرضا للإنسان.

الرضا جوهر حياة الإنسان ومقومها الذي يكسبها القوة والقدرة على المواصلة والنهوض، فقد يخفق الإنسان مرة تلو مرة لكن بنفس راضية مطمئنة، يستشعر معها ومن خلالها أنه ليس ثمة يأس، وإنما عود وبدء من جديد من خلال الرضا بما قدر عليك وما قدر لك. أقولها بأعلى صوتي: “ولكم في الرضا حياة يا أولي الألباب”.

هل مازلنا نتعلم من سقراط؟

سقراط ما أروعك يا فيلسوف، ما أروعك وأنت تحدثنا عن القوانين المكتوبة الوضعية التي تنظم حياة الناس، يلتزم الناس بالقوانين غير المكتوبة القوانين التي منحنا الإله إياها، أليس ذلك يحقق سعادة الإنسان؟

وبعد يا فيلسوف أليست فلسفتك الأخلاقية منطبقة على حياتك؟ ألم تتجرع السم راضيا؟ ألم تعلم تلاميذك الحكمة وفصل الخطاب؟ ألم تظل على مبادئك وقد أتيحت لك الفرصة للهروب من السجن؟

يا سادة هذه فلسفة سقراط الأخلاقية التي ستظل خالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فلسفة أقامها على الموافقة والموائمة العقلية بين الجانبيين المادي والمعنوي في الإنسان حتى تتحقق السعادة، وسنكمل تلاميذ سقراط وأفلاطون وأرسطو وحديثهم عن مفهوم السعادة في الجزء الرابع.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

  *****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. عادل خلف عبد العزيز

أستاذ الفلسفة الإسلامية ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان

مقالات ذات صلة