مقالات

الباشا والجبرتي .. الجزء الثالث (المذبحة)

نفى محمد علي باشا السيد عمر مكرم من القاهرة إلى دمياط، لأن عمر مكرم دأب على معارضته في ظلمه للناس. ولم يفعل الباشا ذلك إلا بعد أن تأكد من حقد كثير من العلماء والفقهاء على عمر مكرم.

كان الباشا بنفسه يعمل على إذكاء نار تلك الوقيعة بين العلماء ليسهل عليه ضربهم والتخلص منهم، وذلك لأن العلماء كبار ومعروفون تصدقهم الناس وتأتمر بأمرهم، والدليل على ذلك أنه عندما اختار العلماء محمد علي لحكم مصر وافقهم الشعب على الفور.

لهذا كان لا بد من التخلص من العلماء لقدرتهم على التأثير في الناس من ناحية ولمعارضتهم لأفعال محمد علي من ناحية أخرى، ووصل الأمر إلى أن وقّع جماعة من العلماء على محضر عزل الشيخ عمر مكرم من نقابة الأشراف متهمين إياه بالفساد، فانتهز الباشا الفرصة ونفاه إلى دمياط.

يقول الجبرتي: “والحامل لهم على ذلك كله، الحظوظ النفسانية والحسد، مع أنّ السيد عمر كان ظلًا ظليلًا عليهم، وعلى أهل البلدة، ويدافع ويرافع عنهم وعن غيرهم”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لم يقتصر هذا الظلم والتنكيل على الفقهاء والعلماء، بل طال كل الناس حتى الأطفال والنساء، يقول الجبرتي عن إحدى حوادث العسكر: “ونهبوا كفر حكيم، وما جاوره من القرى، حتى أخذوا النساء والبنات، والصبيان، والمواشي، ودخلوا بهم إلى بولاق يبيعونهم فيما بينهم، من غير تحاشٍ كأنهم سبايا كفار”.

وعندما دخل الإنجليز مصر واحتلوا الإسكندرية عمت الفوضى فانتهز العسكر ذلك فهاجموا الناس بأسلحتهم، يقول الجبرتي: “وفَجَروا (أي العسكر) بالنساء وافتضوا الأبكار وأخذوهم وباعوهم فيما بينهم”، ويضيف قائلًا بمرارة: “وهكذا يفعل المجاهدون”.

وقبل أن نتطرق إلى ذكر مذبحة القلعة لا بد أولًا من ذكر أسبابها..

كان محمد علي طول الوقت ينتظر الفرصة المواتية للتخلص من المماليك تمامًا لينفرد بحكم مصر، إذ كانوا عقبة في طريق سيطرته على الحكم، بعد نفيه للشيح عمر مكرم الذي تزعم ثورة المصريين التي أتت به لحكم مصر.

كان محمد علي يعلم صعوبة الانتصار على المماليك لقدرتهم على الكر والفر وإعادة تنظيم صفوفهم، كما أنه يعلم كم أنهم يكرهونه وأن لديهم نية استرداد حكم مصر منه وينتظرون ذلك ويتحينونه، وقد فشلت كثير من المحاولات لتحقيق الوفاق بينه وبينهم.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

في عام 1811 جاء الأمر لمحمد علي باشا من السلطان العثماني لتسيير جيشه للقضاء على الحركة الوهابية التي كانت تسيطر على الحجاز وقتها، وكانت هي الأخرى في نظر الباشا تشكل خطرًا على مشروعه في حكم مصر والتوسع منه، فخشي أن يغدر به المماليك مستغلين أن جيشه قد أصبح خارج البلاد، فرأى أن يغدر بهم قبل أن يغدروا به وأن يتغدى بهم قبل أن يتعشوا به.

في يوم الجمعة الأول من مارس من ذلك العام دعا الباشا كبار الدولة وأمراء المماليك لحضور الاحتفال بخروج الجيش للحجاز بقيادة ابنه طوسون، ويقول الجبرتي تحت عنوان “ذكر مقتل الأمراء المصريين وأتباعهم في القلعة”: “فلما أصبح يوم الجمعة سادسه ركب الجميع وطلعوا إلى القلعة، وطلع المصرية بمماليكهم وأتباعهم وأجنادهم، فدخل الأمراء عند الباشا وصبحوا عليه وجلسوا معه حصةً وشربوا القهوة وتضاحك معهم، ثم انجر الموكب على الوضع الذي رتبوه، فانجر طايفة الدلاة وأميرهم المسمى أزون أوغلي، ومن خلفهم الوالي والمحتسب والوجاقلية والألداشات المصرية ومن تزيا بزيهم، ومن خلفهم طوايف العسكر الرجالة والخيالة والبيكباشيات وأرباب المناصب منهم، وإبراهيم أغا أغات الباب، وسليمان بك البواب يذهب ويجيء ويرتب الموكب.

كان الباشا قد بيت مع حسن باشا وصالح قوج والكتخدا فقط غدر المصرية وقتلهم، وأسرّ بذلك في صبحها إبراهيم أغا أغات الباب، فلما انجر الموكب وفرغ طايفة الدلاة ومَن خلفهم مِن الوجاقلية والألداشات المصرية وانفصلوا من باب العزب، فعند ذلك أمر صالح قوج بغلق الباب، وعرَّف طايفته بالمراد فالتفتوا ضاربين بالمصرية، وقد انحصروا بأجمعهم في المضيق المنحدر الحجر المقطوع في أعلى باب العزب، مسافة ما بين الباب الأعلى الذي يتوصل منه إلى رحبة سوق القلعة إلى الباب الأسفل، وقد أعدوا عدة من العساكر أوقفوهم على علاوي النقر الحجر والحيطان التي به.

فلما حصل الضرب التحتانيين أراد الأمراء الرجوع القهقري، فلم يمكنهم ذلك لانتظام الخيول في مضيق النقر، وأخذهم ضرب البنادق والقرابين من خلفهم أيضًا”، ويواصل الجبرتي قصته للمذبحة بتفاصيلها الدموية، وما تعبر عنه من غدر الباشا وقسوته، واستباحته كل شيء في سبيل تحقيق أهدافه في الملك والسيطرة.

ليس من العدل القول بأن الجبرتي كان متحاملًا على محمد علي، فالجبرتي لم يكن يفعل أكثر من سرد الأحداث كما حدثت دون زيادة أو نقصان، ليترك الحكم عليها بعد ذلك للناس وللتاريخ، وليس أدل على ذلك من روايته لمذبحة القلعة التي أكد صدقها كل المؤرخين وبنفس التفاصيل تقريبًا.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فهذا عبد الرحمن الرافعي في كتابه “عصر محمد علي” يروى تفاصيل مذبحة القلعة قائلا: “سمع محمد علي باشا والي مصر، أول طلقة، فوقف وامتقع لونه، وعلا الاصفرار وجهه، وتنازعته الانفعالات المختلفة، وأخذ يسمع دوي الرصاص وصيحات الذعر والاستغاثة وهو صامت، إلى أن حصد الموت معظم المماليك، وأخذ صوت الرصاص يتلاشى إعلانًا بانتهاء مذبحتهم”.

يضيف الرافعي أن طبيب محمد علي، المسيو “ماندريش” الإيطالي، دخل عليه وقال له: “لقد قضي الأمر، واليوم يوم سعيد لسموكم”، فلم يجب الباشا بشيء، وطلب قدحًا من الماء فشرب منه جرعة طويلة.

وفقًا للرافعي فإن الباشا دعا أعيان المماليك إلى احتفال كبير بمناسبة تنصيب ابنه “طوسون” قائدًا لحملة تتوجه إلى الحجاز، ولبوا الدعوة وتوجهوا في أبهى زينة وأفخم هيئة، وبلغ عدد المدعوين نحو عشرة آلاف شخص منهم أربعمئة وسبعون من المماليك وأتباعهم وكبار القوم، ومختلف الطوائف، وتناولوا الغداء، وأطلقوا الغناء، حتى نادى المنادي برحيل الموكب، فعزفت الموسيقى وانتظم قرع الطبول، وبدأ الموكب في السير منحدرًا من القلعة إلى “باب العزب”.

يقول: “لم يكد الجنود يصلون إلى هذا الباب حتى ارتج الباب الكبير بإغلاقه من الخارج في وجه المماليك، وتحول الجنود بسرعة عن الطريق ليتسلقوا الصخور على الجانبين وأمطروا المماليك –الذين حاولوا الفرار– بالرصاص، فكانت البنادق تحصدهم من كل مكان بلا رحمة، حتى بلغ ارتفاع الجثث في بعض الأمكنة إلى أمتار، وتمكن بعضهم من الوصول إلى طوسون باشا راكبًا جواده منتظرًا أن تنتهي تلك المأساة، فتراموا على أقدامه طالبين الأمان، لكنه وقف جامدًا لا يبدي حركة، وعاجلهم الجنود بالقتل”.

ما إن ذاع خبر المجزرة في القاهرة حتى هاجم الجنود بيوت الأمراء المماليك فنهبوها ولم يتركوا كبيرًا أو صغيرًا من المماليك إلا وقتلوه، وانتشر النهب والقتل، ثم نزل محمد علي باشا إلى القاهرة في موكبه محاطًا بحاشيته ورجاله، وأمر بوقف القتل والنهب، ومثل بمن لم يمتثل فتوقف النهب.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يقول الجبرتي أنه لو لم يفعل ذلك لنهبت القاهرة بأكملها، وأرسلوا بعدها إلى الأقاليم والصعيد يطلبون رؤوس المماليك، ولم يقبلوا شفاعة في مملوك من كائن كان، واستمر وصول رؤوس المماليك من الأقاليم عدة أيام، ولم ينج منها إلا أمين بك الذي كان متأخرًا عن الموكب، فلما سمع صوت الرصاص قفز بحصانه من فوق سور القلعة وفر إلى الشام.

ويقدر الجبرتي عدد من قتل في القلعة بأكثر من خمسمائة مملوك، ونحو ألفين آخرين في أعمال القتل التي تبعتها في طول مصر وعرضها، ونصب جنود محمد علي مصطبة أمام باب زويلة وعلقوا عليها رؤوس القتلى، لتكون رادعًا لمن تسول له نفسه الخروج على حكم الباشا، وهكذا انتهى زمن المماليك في مصر.

وللحديث بقية…

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

الطلبة والسباهية

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ . شامخ الشندويلى

الشاعر والكاتب والسيناريست المعروف

مقالات ذات صلة