مقالات

الباشا والجبرتي .. الجزء الثاني

تحدثنا في المقال السابق عن الأسباب التي أدت إلى معارضة الجبرتي لمحمد علي والي مصر، ووضحنا أن هناك ما يدل على أن الجبرتي لم يكن متحاملًا على محمد علي، بدليل أنه كثيرًا ما مدح عزمه وهمته وطموحه.

إنما كانت كراهيته لممارسته القاسية والمجحفة ضد الشعب، والمتمثلة في البطش بمن يعارضه لدرجة التنكيل والقتل، وفي فرض الجباية على الناس لدرجة تجويعهم، وفي أسباب سياسية أخرى كثيرة سنعرفها، ونورد في هذا المقال مزيدًا حول طباع الباشا ومساوئ سياسته من واقع تاريخ الجبرتي.

كما قلنا، كره الجبرتي اعتماد محمد عليّ على فرض الضرائب على كل شيء، حتى على الفسيخ أو السمك المملح الذي كان طعام الفقراء فارتفع سعره فصعب الحصول عليه، كما كره منه إلقاء القبض على الناس بغير جرم إلا مجرد الاشتباه بهم، أو عجزهم عن دفع ما فرض عليهم من الجباية.

يقول: “وانقضت السنة وما حصل بها من الغلاء، والقبض على أفراد الناس بأدنى شبهة، وطلب الأموال منهم وحبسهم، واشتدّ الضنك في آخر السنة، وذلك أن ولي الأمر لم يكن له من الشغل إلا صرف همته وعقله وفكرته في تحصيل المال والمكاسب وقطع أرزاق المسترزقين، والحجر والاحتكار لجميع الأسباب، ولا يتقرب إليه من يريد قربه إلا بمساعدته على مراداته ومقاصده”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يحكي في موضع آخر فيقول: “شرع الباشا (أي فرض) في أثناء تجهيز العساكر لنشرهم بالوجهين القبلي والبحري فرضة عظيمة (إتاوة عظيمة)، على البلاد والقرى والتجار، ونصارى الأروام والأقباط، والشوام ومساتير الناس (بقصد متوسطي الحال منهم) ونساء الأعيان والملتزمين، وغيرهم، وقدرها ستة آلاف كيس، وذكروا أنها سلفة لمدة ستة أيام ترد إلى أربابها، ولا صحّة لذلك”. (يقصد أن الباشا كان يحتال ليسلب الناس أموالهم بغير حق).

كما اعترض الجبرتي على موقف محمد علي من حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية، فأعرب عن تعاطفه مع الدعوة واقتناعه بآراء رجالها، وأظهر استياءه من تعذيب وظلم الشعب المصري بالضرائب لتدبير تكاليف الحملة على الحجاز، فقال: “وجعل على كل فدان ستة قروش وسبعة وثمانية، وذكر أنها مساعدة على حروب الحجاز”، وأن جنود محمد علي كانوا يخطفون من الفلاحين “السمن والجبن والتبن والبيض وغير ذلك”، بحجة سفرهم إلى الحجاز فقل اللحم والسمن والجبن، بعد أن استولى محمد علي على مواشي الفلاحين وأغنامهم.

لم يسلم العلماء من ظلم محمد علي مع أنهم هم الذين أوصلوه إلى حكم مصر، فقام بفرض الإقامة الجبرية على الشيخ عبد الله الشرقاوي ومنعه حتى من الخروج إلى صلاة الجمعة بسبب وشاية من مشايخ آخرين، ويقول الجبرتي متحسرًا على ما حلّ بالشرقاوي: “فامتثل الأمر، ولم يجد ناصرًا، وأُهمل أمره”.

كما يحكي الجبرتي أنّ الباشا: “طلب من التجار حوالي ألفي كيس على سبيل السلفة، فوُزعت على الأعيان والتجار وأهل وكالة الصابون ووكالة التفاح، وحجزوا البضايع وأجلسوا العساكر على الحواصل والوكايل، يمنعون من يُخْرج من ماله أو مخزنه شيئًا إلا بقصد الدفع من أصل المطلوب منهم”.

طال ذلك الناس المساتير فيكون الإنسان جالسًا في بيته فما يشعر إلا والمعينون واصلون إليه وبيدهم الطلب، إما خمسة أكياس أو عشرة، فإما أن يدفعها وإلا قبضوا عليه وسحبوه إلى السجن، فغضب الشيخ الشرقاوي شيخ الأزهر واحتد على الباشا، قائلًا: “ينبغي أن ترفقوا بالناس، وترفعوا الظلم”، فقال الباشا: “أنا لست بظالم وحدي، وأنتم أظلم مني”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

تعدى ظلم الباشا ليشمل أموال الأوقاف، وكان الباشا لا يطيق الوقف، ويسخر منه قائلًا: “إيش يعني وقف؟”، كان محمد علي يستولي على الديار والأراضي، “وكان يطلب رب المكان ليعطيه الثمن، فلا يجد بدًا من الإجابة، فيدفع له ما سمحت به نفسه، إن شاء عُشر الثمن، أو أقل أو أزيد قليلًا، وذلك لشفاعة، أو واسطة خير، وإذا قيل له: إنه وقف، ولا مسوغ لاستبداله لعدم تخريبه، أمر بتخريبه ليلًا”.

عندما استولى الإنجليز على الإسكندرية في حملتهم على مصر، واتجهوا للاستيلاء على الإقليم المصري كله، قال مشايخ العلماء للباشا: “إنا نخرج جميعًا للجهاد مع الرعية والعسكر”، لكنّه رفض وقال لهم: “ليس على رعية البلد خروج، وإنما عليهم المساعدة بالمال لعلايف العسكر”.

بعد أن تصدى الفلاحون والأهالي في رشيد والبحيرة والإسكندرية للحملة الانجليزية وهزموها، نُسب الفضل كلّه بالباطل إلى محمد علي، ويحكي الجبرتي قائلًا: “وليت العامة شُكروا على ذلك، أو نُسب إليهم فعل، بل نُسب كلّ ذلك للباشا وعساكره، وجوزيت العامة بضدّ الجزاء بعد ذلك”، أي بالضرائب وظلم العسكر.

في حفر ترعة الأشرفية بناحية الإسكندرية ذاق العمال المرار ومات كثير منهم، يقول الجبرتي: “وأمر الباشا حكام الجهات بالأرياف بجمع الفلاحين للعمل، فكانوا يربطونهم قطارات بالحبال، وينزلون بهم المراكب، مات كثير منهم من البرد والتعب، وكل من سقط أهالوا عليه من تراب الحفر ولو فيه الروح”.

كانت قمة الظلم في أن الباشا لم يكتف بكل ذلك، بل أخذ ضرائب الزرع ممن بقي منهم حيًا رغم أنّ زرعهم لم يؤت حصاده، ومعنى هذا أن كل العمل الذي عملوه في الحفر كان سخرة بلا مقابل، وبعد عودتهم إلى قراهم طولبوا بضرائب الزرع مع أنهم لم يزرعوه بسبب تلك السخرة، ويكمل الجبرتي قائلًا متعجبًا: “واستمرّ التحجير على الأرز ومزارعه على مثل هذا النسق، بحيث إن الزارعين التعبانين فيه لا يمكنون من أخذ حبة منه، فيؤخذ بأجمعه لطرف الباشا بما قدره من ثمن”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وللحديث بقية…

مقالات ذات صلة:

الخطة اللي رسمها ونفذها محمد علي

متى ينتهي ويُنصر المظلوم؟

السياسة والرقص بالكلمات!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ . شامخ الشندويلى

الشاعر والكاتب والسيناريست المعروف

مقالات ذات صلة