مقالات

الباشا والجبرتي .. الجزء الأول

مرت هذه الأيام 174 سنة على وفاة محمد علي باشا حاكم مصر الألباني، المعروف بمؤسس مصر الحديثة الذي ثار حوله كثير من الجدل، فكثيرون يشيدون بإنجازات محمد علي وحزمه وعزمه وطموحه الكبير وذكائه وعبقريته، لكن بعضهم يعتبره مثالًا للانتهازية والأنانية والوصولية والقسوة في التعامل مع الشعب، ومن هؤلاء المؤرخ الشهير عبد الرحمن الجبرتي، ومن المعروف أنه لم يؤرخ مؤرخ لحقبة محمد علي وأحداث حكمه مثل الجبرتي، فأين الحقيقة؟!

محمد علي باشا الذي توفي عام 1849م الذي كان قائدًا عسكريًا ألبانيًا في الجيش العثماني، ولد في مقدونيا وتوفي أبواه في طفولته، فكان يسمع الناس يقولون كيف سيحيا هذا اليتيم في هذه الدنيا وحده، فشعر من كلامهم أن تحديات الحياة ضخمة وتحتاج إلى العزم والهمة الكبيرين مع كثير من استعمال الذكاء، وأصر بينه وبين نفسه على أن يخوض مغامرة الحياة بطموح كبير في أن يصبح شخصًا عظيمًا، وألا يخاف مهما كان التحدي الذي سيواجهه.

اشترك مرة مع بعض رفاقه في مسابقة بالقوارب من ميناء قولة إلى جزيرة أمام الميناء، فحدث في أثناء السباق أن هاج البحر هياجًا شديدًا واضطرب وارتفعت الأمواج، فتراجع رفاقه وانسحبوا خوفًا من الغرق، أما هو فقرر الاستمرار وظل يقاوم الأمواج إلى أن بلغ الجزيرة المقصودة وهو يكاد يشرف على الموت من شدة الإجهاد.

مما يروى عنه أيضًا وفي بدايات حياته أن سكان إحدى القرى التابعة لحاكم قولة رفضوا دفع الأموال الأميرية، فتطوع محمد علي لتحصيل تلك الأموال منهم بعشرة رجال فقط، فوافق الحاكم وأرسل معه الرجال الذين طلبهم، فتوجه بهم إلى مسجد تلك القرية وطلب أربعة من وجهائها، فلما توجهوا للقائه قبض عليهم وأخذهم إلى مقر الحاكم، وحذر أهل القرية أنه إذا ظهر منهم أي تمرد على الأوامر فسيقوم بقتل كبارهم الأسرى لديه، فلزموا السكينة وبادروا إلى دفع المال المطلوب.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هذه العزيمة الكبيرة وهذه القريحة المميزة هي التي صاحبت محمد علي في كل خطوات حياته، فما جبن ولا خاف ولا تراجع عن هدف أراده، وكانت إحدى قريباته ثرية فساعدته على الإتجار في الدخان، كما وجد مساعدة من أحد التجار الفرنسيين ولعل هذا ما جعله طول عمره يحب الفرنسيين.

قصة حياة محمد علي باشا طويلة ولا يمكن ذكرها هنا إلا باختصار شديد، وسنكتفي بأنه التحق بالجيش التركي وجاء إلى مصر لمحاربة الحملة الفرنسية ثم لمحاربة بعض فصائل المماليك، ولن نستطيع الخوض في تفاصيل الأحداث التي مر بها بسبب ضيق الوقت، لكنه اشتهر بذكائه ودهائه في الحرب مما جعله يترقى بسرعة، وعندما ثار المصريون على حاكمهم أحمد باشا خورشيد ركب محمد علي موجة الإرادة الشعبية، ولعب على الفوز بثقة الناس وحبهم لكي يوصلوه إلى كرسي الحكم، ولم تكن هذه الألاعيب الأمريكانية الطابع شائعة في ذلك الوقت، وقد نجحت هذه السياسة نجاحًا باهرًا حتى أن الناس رفعوه على الأعناق مطالبين به حاكمًا لمصر، دون أن يطلب منهم ذلك لا تصريحًا ولا تلميحًا وتظاهر طول الوقت بأنه لم يعمل من أجل ذلك الهدف أبدًا.

لماذا كره الجبرتي محمد علي باشا حاكم مصر؟

الشيخ الأزهريّ عبد الرحمن الجبرتيّ أحد أشهر وأهم المؤرخين في تاريخ مصر، فتاريخه متفرد لا مثيل له في الدقة وجمال الوصف والصراحة والصدق والبلاغة، وكان سرده لأحداث تلك الفترة مملوءًا بالحزن من استبداد محمد عليّ، لكن معارضته للباشا لم تمنعه من الاعتراف بمحاسنه.

كان مستاء من الصراع بين علماء الأزهر، ومن سقوط بعضهم في فتنة حب الدنيا وانشغالهم بجمع المال وعلاقات بعضهم مع الفرنسيس ومع الباشا محمد عليّ، وعلى مؤامرات بعضهم على بعض، مثل الذي فعلوه في حق الشيخ عمر مكرم وكيف رموه بالاختلاس والفساد.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كان الجبرتي وفيًا جدًا لمهمة تدوين التاريخ، وكان شديد الجدية فيها يتحرى الدقة والأمانة والموضوعية، وكان مثقفًا ملمًا لا بتاريخ المسلمين وثقافتهم وآدابهم فقط، بل وبتاريخ البشرية منذ بدء الخليقة، وكان يعلم أن انتقاده لمحمد علي وهو حاكم ظالم متحجر القلب وشديد البطش لن تجر عليه المشكلات فقط، بل وستعرض حياته للخطر كذلك، لكن أمانة الكلمة طغت على كل خوف بداخله، فانطلق يسجل الأحداث بصدق ويقول رأيه بشجاعة وأمانة.

الدليل على أمانته ذكره لمحاسن الباشا رغم الظلم والعنف والاستبداد الذي ساد حكمه، فأشاد بفضله في تعمير الإسكندرية وأنه كان من محاسن الأفعال التي عجز السابقون عن القيام بها، كما أشاد بتشجيعه أبناء مصر من النبهاء، فذكر أنه عندما ابتكر مصري يدعى “حسين شلبي عجوة” آلة لضرب الأرز وتبييضه تدور بطريقة سهلة توفر الجهد والمال والطاقة، وصنع لها نموذجًا، أنشأ الباشا على الفور مصنعًا لتستخدم فيه هذه الآلة، كما أشاد الجبرتي بقوة عزم الباشا في الزراعة والصناعة والتعمير وإصلاح السدود وغيره، يقول: “ومن محاسن الأفعال أن الباشا أعمل همته في إعادة السد الأعظم الممتد الموصل إلى الإسكندرية، وقد كان اتسع أمره وتخرب من مدة سنين، وزحف منه ماء البحر المالح”، ويقول: “له مندوحة لم تكن لغيره من ملوك هذه الأزمان، فلو وفقه الله لشيء من العدالة على ما فيه من العزم والرياسة والشهامة والتدبير والمطاولة، لكان أعجوبة زمانه وفريد أوانه”.

يمكن أن نستنتج من هذا أن الجبرتي تعمد أن يذكر ما لمحمد علي وما عليه بأمانة، مدركًا أن هذا واجب المؤرخ المتجرد من الهوى والغرض.

أما في معارضته لمحمد علي فيصف الجبرتي محمد علي باشا والي مصر بالطماع والشره والمرتشي والحسود والدنيء النفس والقاتل والمجرم الذي لا يعرف الرحمة، والغارق في حب الدنيا وتارك الآخرة والمتطلع لما في أيدي الناس وأرزاقهم.

يحكي أنه كان إذا وجد الثراء في شخص والنعمة بادية عليه، يدس عليه من يتهمه بشيء لمصادرة أملاكه وبيته وجواريه وكل شيء، فيصبح الرجل مفلسًا بعد نعمة فيموت قهرًا، وكان إذا مات رجل من الأعيان أو الأمراء أو حتى المشايخ المشهورين فإنه يختم على داره ويسلب كل ما فيه ويحصي كل أملاكه ويضمها لديوان الدولة فترث الدولة الميت بدلًا من أهله فيكون موتًا وخراب ديار.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

حتى أنه كان يومًا في تركيا وعلم أن أحد الوجهاء بمصر قد مات فأرسل بأن يختم على داره ومحذرًا من الاقتراب من ميراثه حتى يعود، فلما عاد بعد أسبوعين كان أول شيء فعله أن طلب إحصاءً لأملاك ذلك المتوفي ومصادرتها.

كان للأرامل والأيتام التزام يتعيشون منه، أي يُترك لهم جزء مما ورثوه من الأرض، مثل أن يكون قيراطًا أو أكثر أو أقل، ثم إذا به فجأة يصادر هذه المعايش ويضمها للدولة، فتبكي النساء وتشتكي وتصيح: “أفرجوا عن معايشنا، من أين سنطعم أولادنا؟”، فيقال لهم من الفائض، أي إذا تبقى شيء بعد ما أخذت الدولة ما تريد من مالكم أعطيناكم وإلا فلا، فكان أصحاب الأرض المصادرة من شدة جوعهم يذهبون إلى أرضهم يتسولون من الحرافيش، جمع حرفوش، أي الفلاح الأجير الذي يعمل بالأرض الذي كان منذ قليل أجيرًا عندهم، فإذا به يتطاول اليوم عليهم ويقول: “أنا اليوم أجير الباشا والأرض أرض الباشا وأنتم ليس لكم في البلد شيء فهاجروا منها”، فتتجمع النساء وتشتكي إلى الأمراء فيتم خداعهن بوعود زائفة.

يقول الجبرتي في ذلك: “وقد ظن الناس في غفلتهم أن في الإناء بقية أو أنهم يدفعون الرزية، وما علموا أن البساط قد انطوى وكل قد ضل وأضل وغوى، ومال عن الصراط واتبع الهوى، وكلب الجور قد كشر عن أنيابه وعوى، ولم يجد له طاردًا ولا معارضًا ولا معاندًا”.

وللحديث بقية…

مقالات ذات صلة:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

حكم “محمد علي” في رواية أدبية

الفن وتدوين التاريخ

يستخدم القوة لمواجهة الضحك

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ . شامخ الشندويلى

الشاعر والكاتب والسيناريست المعروف

مقالات ذات صلة