علم نفس وأخلاق - مقالاتمقالات

مجتمع الواجب ومجتمع الفهلوة

قمت من النوم في موعدي المعتاد، إنها الـ 7 صباحا، سأتناول الفطور ثم آخذ ابني وابنتي إلى المدرسة ثم أذهب إلى العمل، ومع ذلك لا أتأخر عن العمل، لكن هذا الصباح كان كل شيء فيه مرتبكا وغير منظم، بعد قيامي من النوم مباشرة ثمة صراخ من المطبخ، ذهبت مسرعا فإذا بابني أحمد يمسك قدمه اليسرى ويصرخ ووالدته تحاول معرفة ما حدث، يبدو أنه تعثر وهو يمشي لكنه يتألم، ارتديت ملابسي بسرعة ثم حملته بين يدي واتصلت بسيارة أجرة لحالة طارئة،

جاء السائق إلى منزلي مسرعا وأخذته إلى المستشفى، أخبرت زوجتي أن توصل ابنتا إلى المدرسة أولا ثم تلحق بي في المستشفى الذي يبعد ما يقارب 6 كيلو مترات، دخلت إلى المستشفى فاستقبلتني الممرضة، شرحت لها ما حدث وأنا أضع أحمد المتألم على سرير متحرك، تحركت الممرضة به إلى قسم العظام، الطبيب متواجد، ومعه طبيبان آخران في القسم، ولأن أحمد يتألم فقد صار أولوية لدى الطبيب الأكثر خبرة بين الثلاثة تعرف مني وحاول أن يفهم من الولد ما حدث.

أحمد باكيا: “لقد التوت قدمي تحتي وأنا أمشي ووقعت على الأرض”، بدأ الطبيب بفحص أحمد وتساعده ممرضة قالت لي: “لا تحزن يا أبا أحمد سيكون بخير استرح على هذا الكرسي”، جلستُ على أعصابي والقلق والحزن وآلام ابني تنهش في قلبي، والدته لم تذهب لإيصال ابنتا إلى المدرسة بل جاءت خلفي هي وابنتنا،

انتبهت أنني لم أحاسب السائق فخرجت مسرعا لعلي أجده لكنه كان قد ذهب، أنا أعرفه فقد ركبت معه من قبل، تم فحص أحمد وطمأنني الطبيب بعد أن شرح لنا أن الأمور ستكون بخير، بعض الأدوية المسكنة مع راحة تامة، ويجب زيارة المستشفى بعد ثلاثة أيام وبرفقتنا التقرير الذي أخذناه، شكرت الطبيب والممرضة التي تفانت في واجبها تجاه ابني المريض.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أخذت ابنتي إلى المدرسة واعتذرت من المدير وشرحت له ما حدث، تقبل المدير اعتذاري وأكملت ابنتي يومها الدراسي، حظيَ أحمد برعاية والدته طيلة اليوم، حاسبت السائق حين اتصلت به مرة ثانية ليعيدنا إلى البيت.

ما قرأته سابقا يمكن روايته بصورة أخرى.

حين التوى كاحل أحمد ابني خرجت مسرعا، أفضل مواصلة الآن لتأخذني إلى المستشفى هي توكتوك، لا أستطيع ركوب ميكروباص لأنه سيقف كل دقيقتين والوضع لا يحتمل، وقف سائق التوكتوك ركبت أنا وزوجتي وابني المتألم، في الطريق المزدحم قابلنا بعض المطبات التي كنا نهدئ السرعة عندها، حين ذهبنا إلى المستشفى وأدخلت ابني الاستقبال عدت لمحاسبة التوك توك،

السائق: “20 ج”، أنا: “لكننا في الظروف العادية نذهب هذا المشوار ب 10 أو 15 على الأكثر!”، بعد شدٍّ وجذب معه أخذ 15 ج حانقا غاضبا، ذهبت إلى ابني مسرعا أين الطبيب؟ ولماذا لم يفحص ابني إلى الآن؟ الممرضة: “لا بد أن يراه د/ ياسر أولا ثم نحوله لقسم العظام، وأين د/ ياسر، الممرضة: “حاضر جاي أهو اصبر شوية!”، لا أستطيع أن أصبر أمام آلام ابني،

على مضض جاء الدكتور ثم قال: “خذوه إلى قسم العظام”، كأننا لا نعرف أنه يتألم بسبب قدمه، لكن لا بد أن يقول هو.. النظام نظام، في قسم العظام يوجد طبيب لكنه لم يأت بعد، فالمناوبة في هذا القسم تبدأ من التاسعة صباحا، فلا بد أن ننتظر مجيء الطبيب، أنا أعرف أنه لن يأتي التاسعة تماما لأنه سيدخل بوابة المستشفى في التاسعة وسيتحدث مع هذا وهذا وربما يكون له مريض فسيذهب ليوصي عليه أولا،

وبعد الانتظار على أحر من الجمر جاء الطبيب، ثم بدأ الفحص، ابني يتألم، أنا أتألم وغاضب، زوجتي تبكي، الطبيب فحص الولد وقال: “بسيطة بسيطة”، الممرضة طلبت مني إحضار رباط ضغط وشاش معقم، ذهبت مسرعا ثم قامت الممرضة بربط ساق ابني وكتب الطبيب بعض الأدوية، ذهبت للبحث عن توكتوك ثم عدنا إلى البيت. وهناك كثير من الحالات التي سمعتها عزيزي القارئ من عدم تواجد الطبيب إلى المعاملة غير الإنسانية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لم يكن ما سبق واقعا حقيقيا حدث معي، بل كان ما سبق هو لفت الانتباه بين فكرتين

الفكرتين

الأولى:

مجتمع الواجب، المجتمع الذي يعد كل شخص فيه ما يقوم به هو واجبه تجاه المجتمع، فالمعلم يعلم ابني ويساعده، والممرضة والطبيب يعتنيان به كل الاعتناء، والسائق والزارع والمهندس وعامل النظافة والشرطي والرئيس والمرؤوس، كل فرد يقوم بعمله بأمانة لأنه واجبه تجاه المجتمع، هذا المجتمع يشعرك بالأمان بأنك ستتلقى المساعدة حين تحتاجها لأن شخصا ما يعتقد أن مساعدتك هي واجب ينبغي أن يؤديه لك وأن التقصير فيه هو عيب وخزي.

الثانية:

مجتمع الفهلوة حيث يضيع الواجب، المعلم لا يشرح بضمير إلا في الدروس الخصوصية، والطبيب لن يهتم بك إلا في عيادته الخاصة، والممرضة تقول: (هو أنا بقبض كام يعني؟!) إلخ، هذا المجتمع لن يجلب لك الأمان، أنت تدرك أنك لن تعلم ابنك بذهابه إلى المدرسة ومع ذلك هذه المدرسة هي ما ستمنحه الشهادة المعتمدة،

وتعرف أن أفضل شيء لحل المشكلات أن تتجنبها، لأن المشكلة قد تكون أنت صاحب الحق فيها ولكن الفهلوة ستضيع كثيرا من الحقوق، وهذا المجتمع لن تشعر فيه بالأمان بل ستشعر بالقلق دائما حتى وإن امتلكت ثمن العلاج في أكبر مستشفى تخصصي، سوف يتملكك الخوف من أن يكونوا غير أمناء وغير ماهرين في عملهم، لأنه ببساطة الفهلوة هي مذهب المجتمع وحياته.

الخلاصة

هذه هي خلاصة الموضوع، المجتمع الذي يقوم فيه كل فرد بعمله بأمانة لأنه واجبه تجاه المجتمع ويشعر بالفخر بأداء عمله ويشعر بالسوء إذا قصر في عمله هو مجتمع الواجب وستشعر فيه بالأمان، والفخر، والمجتمع الذي يتخذ الفهلوة منهج حياة سيتملكك فيه القلق مهما كانت مكانتك ومالك، لأنك تدرك جيدا أنه لا أحد فيه سيقوم بواجبه بأمانة، حيث لا تجتمع الأمانة والفهلوة معا.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إن الأمانة أساس متين في بناء صرح المجتمع.

اقرأ أيضاً:

ربتوني كويس ليه؟

عكس التيار

كيف تعرف الواجبات المفروضة عليك كما تعرف حقوقك؟

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. محمد السيد قياسة

مدرس اللغويات – كلية اللغة العربية بالمنصورة – جامعة الأزهر

مقالات ذات صلة