علم نفس وأخلاق - مقالاتمقالات

ولا يتعايشون بينهم لا بالحب ولا بالوفاء!

رضي الله عمن قال: “وهل يتعايش الناس بينهم إلا بالحب والوفاء؟”، وأيًا من كان قائلها فهي جملة تفيض بالمعنى كله والفهم كله والخير كله، فليس كل أنا إلا أنت، لكن يبدو أنها رحلت عنا وغادرتنا وتركتنا لغيرها.

لا يحتاج الإنسان إلى قول كثير لشرح ما يعانيه الكل من الكل الآن جراء ذلك.

لم نكن كذلك، ولم تكن هكذا بلادنا ولا هكذا أهل بلادنا، كان الناس يعتصرون دم الحياة من أنفسهم لبعضهم، فهذا ما يقوله الدين وما تنصح به الدنيا، التي هي عندهم سلف ودين.

يحكي لنا الدكتور نجيب باشا محفوظ (ت/1974م) في مذكراته “حياة طبيب”، أنه عالج مريضة كانت قريبة للشيخ حمزة فتح الله (ت/1918م) الذي كان أحد أعلام عصره وقتها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وحين فاتحه الشيخ في الأتعاب قال له: “إن سيدي الأستاذ أدى الحساب من ثلاثين سنة!”، فقال له: “وكيف كان ذلك؟”.

فحكى له أنه حين كان تلميذًا في مدرسة المنصورة الابتدائية، جاء إليها الشيخ حمزة مفتشًا من وزارة المعارف للغة العربية، “وحين جاءت نوبتي في الوقوف لتسألني طلبت إليَّ أن أكتب قصة في عشرة سطور، وأن أقرأها بصوت عالٍ.

فلما كتبتها أعطيتها لأستاذي الشيخ المهدي، فقال: “اقرأها”، فلما قرأتها طلبت إليَّ أن أخرج وأقف على السبورة وسألتني عن اسمي، وقلت لي اكتب: يا نجيبًا قد فزت رأيًا وقولًا ** فاز من يهتدي إلى ما اهتدينا.

فلما قال لك الأستاذ المهدي أني مسيحي أقبلت عليّ وصافحتني وأثنيت على ثناء جميلًا”.

فما إن سمع الشيخ حمزة الحكاية بعد ثلاثين عامًا، من أشهر طبيب نساء وولادة في مصر كلها وطبيب العائلة الملكية وقتها، “ضمّني إلى صدره في حنوٍ بالغ وتقدير عميق وقال لي هذا يوم من أسعد أيام حياتي”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

من يحكي هذه القصة طبيب مسيحي يعشق حضارته الإسلامية وأدبها العربي كما قال عن نفسه، ومن يأخذه في حضنه بحنوٍ بالغ علم من أعلام الإسلام في عصره، وأستاذ في كلية دار العلوم والألسن.

فأي ناس كانوا هؤلاء؟ وأي بيوت خرجوا منها؟ وأي هواء كانوا يتنفسونه، وماء كانوا يشربونه وأي أيام كان يحيونها؟

ما من شيء مهما يكن صغيرًا إلا وله ظل، تقول الحكاية إن المصريين كانت تلك حالهم في أغلب الأحوال وأعمها قبل 1952م.

إن أول زلزلة خلخلت ثوابتهم الأخلاقية كانت موقف الضباط الأحرار من رئيسهم محمد نجيب (ت/1983م)، الذي جعل من نفسه غطاء لهم في حركتهم، ثم نكلوا به تنكيلًا. ظل مضرب الأمثال في الكراهية والغدر، وظل المصريون يكتمونه في صدورهم، وظل يتسرب في أعماقهم كالأبخرة السامة دون وعي منهم.

فبعد التنكيل بالرجل “الأسمر ذي الوجه الأبوي” –كما كان يوصف– الذي نجح في منافسة مصطفى النحاس (ت/1965م) في قلوب المصريين، انتشرت بعدها حالة من الضباب الرمادي معبأة بالرعب والخوف والقلق الهلوع في مواجهة الناس، الحالة التي سرعان ما صعقتهم في أخلاقهم وتآلفهم وتماسكهم.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ذاك الذي أخذ يتحلل ويتفكك ويسري فيهم متلصصًا ومستمرًا في سريانه، حتى أصبحت أعماقهم مثل اللافتة القديمة الصدئة، في يوم من الأيام كان مكتوبًا عليها شيء ما بديع ورائع، أما الآن فلا يستطيع أحد أن يتعرف على ماهية هذا الشيء.

كما يحكي لنا الروائي الروسي تشيكوف (ت/1904م) في قصة “طائر البحر” عن شخصية تريبيلوف، الذي انتحر في النهاية!

هل سمعتم عن المرأة التي قتلت طفلها كي لا يزعجها بكاؤه؟ كيف كان ذلك؟

تقول الحكاية أن الناس ظلوا في صمت مريع، صمت شامل في ظلام كظلام الليل البهيم، في الوقت الذي تركوا فيه أنفسهم حقل تجارب لأفكار رجل غامض، يخفي غموضه خلف ستار من الحماسة والقسوة المفرطة، ولم يكن الناس يعرفون أي شيء عن حقيقة الرواية الخبيثة التي تحدث من خلف ظهورهم.

حتى جاءتهم الزلزلة الأعنف في 1967م، فذهبت بما بقي لديهم من بقية تماسك نفسي وأخلاقي، تركه لهم من قديم الشيخ حمزة والدكتور محفوظ.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

حين سمعوا بقصة الصديق الذي قتل صديق عمره بالسم الفتاك في كوب من عصير الجوافة، كانوا قد نسوا تمامًا أين هم من الدنيا وماذا ينتظرهم فيها، لقد نسوا أنفسهم!

يقولون أنه قد يمضي الإنسان عمره بين جذوع الشجر، لكن لا يمنعه ذلك من أن يفكر ويفهم ويشعر. يقول لنا أهل الطريق أن شر الآلام ألم الحرمان من التأمل.

هو ذاك الذي حدث في الثلاثينية البليدة الطويلة المفككة العفنة، ثلاثينية مبارك التي تكفلت بما “تحت خط الأخلاق” نفسه.

لا تفكر ولا شعور ولا فهم ولا تأمل! نعم، فقد انسحبت أخلاق الناس إلى أبعد مخبأ في أخفى أعماق نفوسهم، مخبأ “الأنانية اللئيمة”.

أسوأ ما في ذلك أنه لم يحدث فقط مع الغلابة، بل حدث للنخبة منهم، وهم يسفسطون بفيهقات الكلام المتراكم طبقًا فوق طبق.

بعد فترة الرئيس مبارك تخلخلت مواضع حزبية واجتماعية عديدة، طال عليها وعلى من فيها الأمد والركود، فانطبقت عليها وعليهم القوانين التاريخية والسنن الكونية التي لا تحابي أحدًا، وهذا عادي جدًا، بل أكثر من عادي.

أين موضع الدهشة إذًا؟! وأين السؤال؟!

السؤال والدهشة هنا عن بعض من كانوا لبعض “رفاق طريق”، ولا أتحدث هنا عن الأفكار في صوابها وخطئها، إنما أتحدث عن الأخلاق في اختياراتها ومواقفها.

من لا يعرف وصف الإمام الشافعي (ت/820م) لـ”الحر” الشريف المحترم الذي يرعى ود لحظة، وينتمي لمن علمه لفظة، سيعرف بالتأكيد وصف المصريين الطيبين لـ”العيش والملح” ورعاية حقهما.

لقد حدثنا “القرآن المجيد” عن الفتية أصحاب الكهف، وكيف كانت صحبتهم وحبهم، وصداقتهم وصدقهم لأنفسهم، ووفائهم كلهم لهم، ولأفكارهم التي تصادقوا حولها وبها وعليها.

لقد كان الجو العام الذي نقله لنا القرآن عن الفتية مليئًا بما يرينا ويروينا، عما كان عليه حبهم وصدقهم وتعاهدهم ووفاؤهم.

هم بشر عاديون في النهاية وليسوا أنبياء ولا رسل، لكن الأفكار والقلوب هي فقط من جعلت منهم مثالًا كاملًا لكل صورة ممكن أن يكون عليها الحب، ويكون عليها الوفاء.

بدءًا من حبهم ووفائهم لربهم الرحمن الذي لا إله إلا هو، مرورًا بعدها بحبهم ووفائهم لما جمعهم من فهم وفكر واعتقاد، وانتهاء بحبهم ووفائهم لبعضهم، هكذا هم وهكذا كانوا، وإنه لكذلك حقًا.

قوة وصلابة، أمتن من كل ما يجيء به الزمان في نماذج الحب، وما يمكن أن يفكر فيه الناس وأن يفعلوه في نماذج الوفاء، إنهم يحلقون عاليًا بأجنحة خفية، مع وجوه الجبال على صفحة السماء، فوق البشر الملتصقين بالأرض والطين وفوق أربطة التفاهة الفانية التي تربط هكذا بشر بخيباتهم، وخيبات مساعيهم في أيامهم ولياليهم.

كل ذلك ذكرته لنا قصتهم لتكون صحبتهم وصداقاتهم نموذجًا مكتملًا لما يتوجب أن يكون عليه الوفاء في الصداقة الأمينة ويكون عليه الحب في الصحبة الصدوقة، دون انفعالات كبيرة ولا أحداث ضخمة.

كلنا أو بعضنا يعرف ذلك، وممكن يعرف أكثر بما شاء الله له من معرفة.

لكن ماذا عن الكلب؟ كلبهم، الذي أضيف إلى كل تعدادهم، ثلاثة أو خمسة أو سبعة، الذي سيكون دائمًا رابعهم أو سادسهم أو ثامنهم؟!

عليك أن تغمض عينيك على اتساعهما حتى ترى وتعيش مشهدهم، وابكِ حتى لا يكون بعد الدمع دمعًا، أمام ما ذكره رب العالمين، رب الوجود، الله العلي الأعلى، عن ذكر الكلب وتعداده مع الفتية في ذكرهم وذكر عددهم ثلاث مرات.

ولتضيق كل عبارات كل لغات الدنيا بل ولتذهب إلى أي مكان، أمام رؤية ومعنى كهذا لا تتسع له أي عبارة وصفًا وشرحًا.

أن يكون الكلب معهم كلهم، كأنه كان صاحبهم كلهم، كأنه كان يعي ما يدور معهم، وما يدورون هم فيه وبه معه ومعهم.

كما قال لنا الدكتور محمد المخزنجي (73 عامًا)، الطبيب النفسي والروائي المعروف وصاحب الكتابات العلمية الرصينة في كتابه “جنوبًا وشرقًا”، إنه اكتشف أن الحيوانات بالفعل “أمم أمثالكم” كما جاء في النص القرآني.

وسبحان العلي القدير الذي جعل لنا الكلب صورة للحب والوفاء.

بعد أن فاض حولنا الغدر، وغاب فينا الوفاء، واتسعت المسافة، بين القول والعمل!

مقالات ذات صلة:

انشروا الحب والتسامح

الإنسان” ذلك الكائن الأخلاقي

الأخلاق ومتغيرات العصر

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. هشام الحمامى

رئيس المركز الثقافي اتحاد الأطباء العرب – عضو الأمانة العامة والمجلس الأعلى لاتحاد الأطباء العرب – مدير الشئون الطبية بقطاع البترول

مقالات ذات صلة