مقالات

المعرفة الحدسية المباشرة: نفسيًا وفسيولوجيًا .. الجزء الثاني

ماذا إذن عن كيفية القفزات الحدسية المباشرة؟ كيف يقوم العقل بتلك القفزات؟ وما الذي يضمن لنا صحتها؟ تستلزم الإجابة عن هذا السؤال أن نطرق أبواب علمي النفس والفسيولوجيا.

ظاهرة الحدس عند كارل يونج

لعل عالم النفس السويسري «كارل جوستاف يونج» Carl Gustav Jung (1875 – 1961) هو أول من تناول بالبحث ظاهرة الحدس كظاهرة سيكولوجية، دون أن تشغله الصراعات الميتافيزيقية في الفلسفة، وإن كان تفسيره العلمي لطبيعة الحدس وكيفيته يحمل في طياته نزعة ميتافيزيقية واضحة؛

في كتابه «الأنماط السيكولوجية» Psychological Types (1921)، يقترح «يونج» اتجاهين رئيسين للشخصية هما الانبساط والانطواء، إلى جانب أربع وظائف عقلية هي: الإحساس والتفكير والشعور والحدس.

ومن تفاعل الوظائف العقلية مع الاتجاهين الرئيسين تنتج ثمانية أنماط سلوكية، يدل كل منها على اتجاه معين ووظيفة عقلية معينة. وبالإضافة إلى ذلك توجد ثلاثة مستويات من الشعور، وهي الشعور الشخصي واللا شعور الشخصي واللا شعور الجمعي. وبهذه المفاهيم يمكن وصف أوجه النشاط النفسي المختلفة للفرد.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أنماط الشخصية

los 8 tipos de personalidad segn carl gustav jung 2 1024x537 - المعرفة الحدسية المباشرة: نفسيًا وفسيولوجيًا .. الجزء الثانيويذهب «يونج» إلى أن الحدس كالإحساس، يُدرك لا شعوريًا وبطريقة غير نقدية، لكنه يدرك الاحتمالات والمبادئ والتضمينات والمواقف ككل على حساب التفصيلات، أي أنه عملية تركيبية وليست تحليلية.

وهو وإن كان يتسم بطابع اليقين، إلا أن الوظائف العقلية الأخرى قد تسهم في تعديله هذا من جهة، ومن جهة أخرى تكشف التقسيمات والمفاهيم السابقة عن نمطين مميزين من الحدس: نمط انبساطي، يدرك مبادئ وإمكانات العالم الخارجي،

ويستمد مادته من مجال التجربة الإنسانية الواعية، ونمط انطوائي يرقى بصاحبه عن معطيات الشعور، ليتبوأ مقعده بين أصحاب الرؤى الكشفية المباشرة.

هذا النمط الكشفي وفقًا لـ«يونج» لا يمكن أن يستمد مادته من الحياة الشخصية للفرد، أو من الواقع النفسي الماثل للحياة، وبينما كان من المرجح أن يفسر «سيجموند فرويد» Sigmund Freud (1856 – 1939) هذه المادة بأنها تنشأ عن الطفولة المبكرة، فقد افترض «يونج» وجود مستوى أعلى للعقل أطلق عليه اسم «اللا شعور –أو اللا وعي– الجمعي».

وهذا الأخير يشبه من عدة جوانب عالم المثل الأفلاطوني، أو العقل الموضوعي الهيجلي، فهو مصدر إنتاج الصور أو النماذج الأولية Archetypes التي تجلت بأشكال مختلفة في حضارات مختلفة، وشهدت بوجود مستوى عقلي مُنتج للأسطورة وشائع بين جميع الناس.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

اللاشعور الجمعي

يصف «يونج» كيفية القفزات الحدسية من النمط الكشفي بعبارات تذكرنا بمفهوم «الإرادة» عند الفيلسوف الألماني «آرثر شوبنهور»Arthur Schopenhauer (1788-1860)، حيث افترض الأخير أن الأفراد هم تجسيد لإرادة جوهرية كلية تقع خارج نطاق الزمان والمكان.

وبالمعنى ذاته يتحدث «يونج» عن عالم «اللا شعور الجمعى» اللا زمكاني؛ هو عالم يمارس تأثيره في الحضارة من خلال تأثيره في النفس الفردية أو من خلال نفاذه فيها، ومن ثم فالفنان الكشفي –ولا فرق بينه وبين العالم المبدع– لا يبتكر المادة المعرفية بقدر ما تسيطر هي عليه وتمسك بزمامه.

وفي ذلك يقول «يونج»: «حين تهيمن قوة الإبداع يتحكم اللا وعي في الحياة ويشكلها أكثر مما تتحكم فيها الإرادة الواعية، وتُدفع الأنا بقوة للسير في مجرى خفي، حيث تصبح مجرد شاهد عاجز على الأحداث، ويغدو نمو العمل وتقدمه هو قدر الشاعر، وهو الذي يحدد سيكولوجيته.

اقرأ أيضاً:

الجزء الأول من المقال

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الإسقاطات اللي في الأحلام دي ليها إشارات في الواقع؟

ما قبل العقل وما بعده

ما هو معنى الحدس؟

وليس جوته هو الذي يُبدع فاوست، بل إن فاوست هو الذي يُبدع جوته (في إشارة إلى المسرحية التراجيدية المشهورة للكاتب المسرحي الألماني يوهان فولفغانغ فون غوتهJohann Wolfgang von Goethe)».

ورغم تعدد الدراسات السيكولوجية لظاهرة «الحدس» بعد «يونج»، إلا أنها جميعًا تؤكد وجود مثل هذا النوع من الرؤى الكشفية المباشرة، التي يصل الإنسان بمقتضاها إلى استنتاجات صحيحة وواضحة دون أن يستطيع شرح الأسس التي تقوم عليها أو بيان مقدماتها وخطواتها.

ويمكن أن نخرج من هذه الدراسات بتعريف عام للحدس بأنه عملية معرفية قبل منطقية Prelogical وبدائية ولا تحليلية ومباشرة، لكنه من جهة أخرى أحد ملكات الإنسان الفكرية التي تعمل مجتمعة على طريق الكشف العلمي؛ لا وجود لملكات أو قدرات عقلية منفصلة ومستقلة عن بعضها البعض.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الفرق بين المخ الأيمن والمخ الأيسر

هل أنت أيسر الدماغ أم أيمن الدماغ ؟1 - المعرفة الحدسية المباشرة: نفسيًا وفسيولوجيًا .. الجزء الثانيثمة خط مواز لهذا الخط السيكولوجي في فسيولوجيا المخ والأعصاب، حيث تشير الكشوف الحديثة إلى أننا ننقسم بالفعل إلى شخصين يعيشان داخل رؤوسنا، أو بتعبير أدق، في النصفين الكرويين الأيمن والأيسر من المخ؛

الشخص الأول يمثله النصف الأيسر الذي يُهيمن على اللغة، ويعمل في إطار الواقع اليومي وفقًا لقواعد المنطق، أما الشخص الثاني فيقطن النصف الأيمن، وهو بطبيعتـه «فنان»، يختص بالتذوق، واستلهام المواقف في جملتها دون النظر إلى تفصيلاتها.

ويرتبط نصفا المخ فيما يبنهما بمعبرٍ من الألياف العصبية، فإذا استؤصل هذا المعبر، فإن كلًا منهما يستمر في العمل منفصلًا عن الآخر. ومعنى هذا أن الكائن الذي تسميه «أنت» –أي ذاتك– يستقر في النصف الأيسر من مُخك. وهناك «أنت» أخرى على بُعد بوصات قلائل في النصف الأيمن، ولكنها صامتة.

وعندما أُجري عملية حسابية على الورق، فإنني أستخدم نصف مخي الأيسر، مع قسط مُعين من المعونة التي يقدمها النصف الأيمن من حين إلى آخر عن طريق الاستبصارات المُفاجئة.

كيف يعمل المخ البشري؟

ويبدو أن هذه بصفة عامة هي الطريقة التي يعمل بها المُخ البشري: النصف الأيسر هو «الإنسان الأمامي»، الأنا التي تتعامل مع العالم، والنصف الأيمن عليه أن يُعبّر عن نفسه عن طريق النصف الأيسر.

ومجمل الأمر أن النصف الأيمن يجد عناءً شديدًا في أداء وظيفته، ذلك أن النصف الأيسر في عجلة دائمًا من أمره، ولا يكف أبدًا عن معالجة المشكلات، ويميل إلى معاملة النصف الأيمن بشيءٍ من نفاد الصبر، وهذا هو السبب في أن الإنسان المتحضر يبدو أنه لا يملك من «الحدس» إلا أقله.

لحظات الحدس

من الأمور ذات الدلالة في هذا الصدد أن المخ الأيسر لديه إحساس قوي بالزمان، على حين أن الأيمن لا يملك شيئًا من هذا الإحساس، وكأن العقل حين تغشاه لحظات «الحدس» يستحضر فجأة واقع زمان آخر ومكان آخر يضفي المعنى والقيمة على مدركات العالم الزمكاني المحسوس.

وأيًا كانت ماهية هذا الواقع الآخر، فليس أمامنا إلا أن نُسلم بوجوده إزاء تجربة الاستبصار المفاجئ للمخ الأيمن، تلك التي لا بد وأن كل فرد منا قد مرَّ بها في لحظات العزلة والتأمل، فإذا ما اعترض أحدهم بأننا نتحدث عن عالم وهمي لا يمكن التحقق منه،

أحلنا إليه كثرةً من المسميات التي تتحدث عنها النظريات العلمية دون دليل عيني مباشر، اللهم إلا آثارها –كالموجات اللاسلكية، والشحنات الكهربائية، إلخ– فإذا كان هذا هو حال النظريات العلمية وكائناتها، فلِم لا نُسلم بوجود عالم للكليات، ونحن نستشعر آثاره بقوة من حين إلى آخر؟

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية

مقالات ذات صلة