مقالات

لصوص لا يستحون!

عبر عقودٍ طويلة عاشها عالمنا العربي في عباءة الدولة ذات الرؤية الواحدة، والفكر الواحد، والأغلبية المُوجهة ثقافيًا وتعليميًا وإعلاميًا، وفي معية صراعات سياسية وأزمات اقتصادية –ما زالت مستمرة– داخليًا وخارجيًا، أفرز المجتمع العربي الحديث والمعاصر أنماطًا مختلفة ولا حصر لها من الفساد، لعل أبرزها انتشار ثقافة اللصوصية، والتنامي المتسارع لعدد اللصوص بشكل غير مسبوق في شتى المجالات، وبين كافة طبقات المجتمع، من أدناها (وهي الطبقة المُعدمة المغلوبة على أمرها) إلى أعلاها (وهي الطبقة المترفة)، مرورًا بالطبقات الوسيطة بينهما على تدرجاتها.

أصنافاً متنوعة من اللصوص

ولم تعد دائرة المعنى لمصطلح اللص مقتصرة على ذلك المستحل لأموال الآخرين وممتلكاتهم من خلال عمليات السلب والنهب والرشوة المألوفة، بل لقد اتسعت لتشمل أصنافًا جديدة ومتنوعة من الناس، فمنهم مثلًا لصوص الكرامة والآدمية، ولصوص العدالة، ولصوص الحق، ولصوص الفكر، ولصوص المناصب، ولصوص العقل والحقائق،

ولصوص الحياة والأعضاء البشرية، ولصوص الطبيعة والجمال، ولصوص الوقت، ولصوص الماضي والحاضر والمستقبل، ولصوص الدين والمشاعر الروحانية، ولصوص الجسد والقيم الأخلاقية، ولصوص التاريخ والحضارة، ولصوص الهوية واللغة، إلخ.

ليس ذلك فحسب، بل يمكن أن نضع على رأس هذه القائمة الممتدة لصوص الوطن بأكمله من رجال الأعمال وأصحاب الشركات الكبرى الذين يُهيمنون على اقتصاديات شعوب بأكملها ويتحكمون في مواردها ويزدادون ثراءً يومًا بعد يوم بتصفية كل ما تبقى في جيوب الفقراء!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الأدهى من ذلك أن اللص في ظل هذا الوضع لم يعد هو ذلك المارق الممارس لسرقاته في جوف الليل، أو المتخفي عن أعين الناس خشية الإيقاع به، أو حتى المُستحيي مما اقترفه من اعتداءات على حقوق الآخرين، بل أصبح اللص في عالمنا العربي المعاصر رجلًا يُشار إليه بالبنان، يمشي مزهوًا بقدراته، مُنتشيًا بما حصَّله مما لا يستحق، مفتونًا كقارون بشهرته، وبانحناءات القوم وتطلعاتهم لشيء من عطاياه. ولم لا؟

وهو يعلم أن هذا اللا مستحق يمهد الطريق أمامه لأن يكون بطلًا يتحاكى الناس بسيرته ويتطلعون إلى حظه العظيم. أمَّا إن كان لصًا صغيرًا، دفعه الحرمان والإحساس بالقهر –مع غياب الوازع الديني والحد الأدنى من السلوك الحضاري– إلى سرقة ونهب الممتلكات العامة والخاصة، من عينة أولئك الذين التقطت كاميرات الهواتف المحمولة صورهم إبان ثورات الربيع العربي، فما هو إلا مجرد نموذج لثقافة اللصوصية التي تشربها كثيرون –لا سيما في المناطق العشوائية– تحت وطأة شروط حياتية منقوصة ومُعوجة!

وما أشبه الليلة بالبارحة، فقد اتخذت ظاهرة اللصوصية أنماطًا متباينة عبر تاريخ العرب وفقًا للنظم السياسية والأوضاع الاقتصادية السائدة، بدايةً من نمط «الصعلكة» قبل ظهور الإسلام في جزيرة العرب، حيث كان الصعلوك فقيرًا مطرودًا من قبيلته، يُكابد شظف العيش، ولا مورد رزق له سوى الإغارة على القرى والقوافل ونهب الثروات والممتلكات، و

مرورًا بنمط «الفُتَّاك» في العصر الأموي، الذين كانوا إما لصوصًا يسرقون لتلبية حاجات يومهم الضرورية، أو معارضين سياسيين يزعزعون نظام الحُكم بقطع الطرق، ووصولًا إلى نمط «الشُطار» و«العيارين» في العصر العباسي، الذين نشطوا في بغداد أواخر القرن الثاني للهجرة، واستحلوا سرقة أموال الأغنياء بوصفها زكاةً مُستحقة للفقراء، واستمر حضورهم بعد ذلك، بدرجات متفاوتة، في المجتمع الإسلامي حتى العصرين المملوكي والعثماني.

الفارق بين لصوص الأمس ولصوص اليوم

على أن الفارق بين لصوص الأمس ولصوص اليوم هو امتلاك الفئة الأولى لثقافة رفيعة أفرزت من بينهم عددًا كبيرًا من الشعراء الذين أثروا الأدب العربي، وهو ما سجَّله مؤرخو العرب مثل «المسعودي» و«الطبري» و«الجاحظ» وغيرهم، بل لقد كانت تحكمهم منظومة قيم أخلاقية قوامها الشجاعة والكرامة والعزة والرغبة في تحقيق العدالة، بغض النظر عن خطأ منطقهم وفساد حُججهم، وهو ما ناقشه «الجاحظ» –على سبيل المثال– في كتابه «أخلاق الشُطار»، وانتقده «ابن الجوزي» في «تلبيس إبليس».

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كمثال على لُغتهم الخاصة، يروي «أبو سعد الآبي الرازي» في «نثر الدُر» أن شاطرًا قد افتخر ذات يوم فقال: «أنا الموج الكدر، أنا القفل العسر، هذا وجهي إلى الآخرة، تأمر بشيء؟ ألك حاجة إلى مالكٍ خازن النار؟ أنا النار، أنا العار، أنا الرحا إذا دار، إذا مشيت مشيت أسبوعين بلا رأس، لولا أني عليلٌ لنخرت نخرة نصفها صاعقة ونصفها زلزلة».

كذلك جاء في كتاب «محاضرات الأدباء» للراغب الأصفهاني أن اللص كان أحسن حالًا من الحاكم المرتشي والقاضي الذي يأكل أموال اليتامى. وقد كان «عثمان الخياط» –على حد وصف «الآبي الرازي»– من كبار الفتيان والشُطار الذين وضعوا الأسس الأخلاقية لجماعات اللصوص والعيارين، فقال ذات يوم: «ما سرقت جارًا قط ولو كان عدوًا، ولا سرقت كريمًا وأنا أعرفه، ولا خنت من خانني، ولا كافأت غدرًا بغدر،

ولقد قتلت بيدي أكثر من مائة خناق ومبنج، لأنهما لا يقتلان ولا يسلبان إلا عند وجوب الحرمة، وعند الاسترسال والثقة». وكان يُسمى «الخياط» لأنه نقب نقبًا فأخرج كل شيءٍ كان في البيت، حتى دثار صاحب الدار وشعاره، ثم خرج وسد النقب، وسواه تسويةً كأنه خاطه أو رفاه، فلُقب بالخياط.

ولعل أشهر جماعة لصوص في التاريخ العربي هي تلك التي قادها «شظاظ الضبي»، وكان من أخبث اللصوص في العصر الأموي، حتى ضرب به العرب المثل فقالوا «ألص من شظاظ»، ولم يكن فقيرًا لأن أمه كانت من أثرياء بني كندة، غير أنه آزر الفقراء فتفرغ للصوصية مع آخرين، وشكلوا عصابة تقطع الطريق على قوافل الأغنياء باليمامة والبحرين ويوزعونها على فقراء بنو تميم وبنو ضبة.

أما لصوص اليوم في عالمنا العربي المُعاصر فمنهم الدهماء الذين هم في دفء الجهل ينعمون، ومنهم المثقفون، لكنهم جميعًا إلى القيم الأخلاقية يفتقرون، في وضح النهار وعتمة الليل يسرقون، ويُطوعون لمآربهم القانون، ويتباهون بما يفعلون، وباختصار: هم لصوصٌ لا يستحون!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

اقرأ أيضاً:

انظر خلفك بغضب (Look Back in Anger)!

فجر الضمير

من حقي أجرب وأغلط

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية

مقالات ذات صلة