مقالاتمنطق ومعرفة - مقالات

نحو علم نفس عقلاني (1)  .. الإدراك وتكوين الإنسان

الإدراك الحسي:

يمكننا أن ندرك أنفسنا والعالم من حولنا بطريقتين أساسيتين؛ الحس والعقل. فمثلًا عندما تنظر بعينك إلى هذا الجسم المادي الموجود أمامك -كالحاسوب أو المحمول- فأنت ترى صورته، وهي صورة خاصة به فقط دون غيره من الأشياء، وخاصة به فقط في هذه اللحظة وهذا المكان بالذات.

هذا هو الإدراك الحسي، فهو يدرك الأجسام المادية عند اتصالها بالحواس، فيدرك صورًا خاصة بظاهر هذه الأجسام فقط، تختص بها دون غيرها. بعد هذا يمكننا تخزين هذه الصور في ذاكرتنا، وتخيلها في خيالنا.

 

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الإدراك العقلي:

لكن ما هو الحب؟ ما هو العدل؟ ما هي الحرية؟ هل هي أجسام مادية نراها بحواسنا؟ نلمسها ونشمها ونسمعها؟ هل رأيت يومًا العدل يتشاجر مع الحب في الشارع؟ بالطبع لا، هي أمور معنوية غير مادية.

وهي أمور عامة غير خاصة، إذ إن معنى العدل مثلا ينطبق على كل موقف وكل حالة فيها إعطاء الحقوق لأصحابها، وليس خاصا بجسم معين في وقت معين ومكان معين. هذا الإدراك للمعاني العامة هو المسمى بالإدراك العقلي.

 

مدارس المعرفة:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وقد اختلف البشر بينهم وبين بعضهم البعض في استخدام هذه الإدراكات، فحاول البعض استخدام الحس فقط لدراسة العالم من حولنا والبحث فيه، بينما استخدم آخرون الحس والعقل معًا.

 

المدرسة الحسية:

ومن يستخدمون الحواس فقط هم من يتم تسميتهم بالمدرسة الحسية. وهي تنقسم لنوعين أساسيين، النوع الأول هم المعتمدون بشكل أساسي على حاسة البصر وهي المدرسة الحسية التجريبية، إذ ترى أن الحس والتجربة العلمية هما أساس المعرفة الإنسانية، وهما وحدهما ما يمكننا استعماله لمعرفة العالم من حولنا.

ولأن الحواس لا ترى إلا أجسامًا مادية فلم يعترف هؤلاء بوجود أي شيء غير الأجسام المادية، وحاولوا تفسير كل شيء تفسيرًا ماديًا بحتًا، دون الاعتراف بأية أمور معنوية أو غير مادية، وهذه المدرسة هي المهيمنة على عالم اليوم.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

والنوع الثاني يعتمد بشكل أساسي على الحس المسموع وهي المدارس النصية، فهم يقتصرون في بحثهم واكتسابهم للمعرفة على ما يسمعونه من نصوص وأخبار منقولة لهم في بيئتهم ومجتمعهم فقط، دون التأكد من صحتها إذ تختلف النصوص من مجتمع لآخر، ودون استخدام العقل أو الإدراك العقلي في فهمها أو تحليلها أو العمل بها.

 

المدرسة العقلية:

وهناك آخرون يستعملون مع الحواس العقل، وهي الطريقة البديهية والصحيحة والمتكاملة لفهم العالم من حولنا واستيعابه، وهي تعترف بالأمور المادية كما تعترف أيضًا بالأمور المعنوية.

والعقل يدرك أمورًا بديهية مثل معنى “موجود” ومعنى “شيء”، ومثل استحالة أن يكون الشي موجودا وغير موجود معًا في نفس المكان والزمان ومن نفس الجهة، ومثل أن كل شيء يحدث لا بد لحدوثه من سبب، وأن الكل أكبر من جزئه، وهكذا. وهي كلها أمور بديهية واضحة. ودراسة كيفية عمل العقل بالتفصيل، وكيفية وصوله لمعلومات أكيدة وصحيحة هو ما يقوم به علم المنطق.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

 

العالم المادي:

وأجسادنا تعيش في عالم مادي، مكون من أجسام مختلفة ذات طول وعرض وارتفاع، أجسام لها كتلة ووزن وتشغل حيزًا في محيطها، لها لون وملمس ورائحة وصوت وطعم، ووجود هذه الأجسام حولنا هو شيء بديهي ندركه بحواسنا.

 

الكائنات الحية:

وفي هذا العالم توجد كائنات حية تختلف عن غيرها من الأجساد والجمادات، إذ إن لديها القدرة على القيام بعمليات حيوية مختلفة كالنمو والإحساس والتكاثر والحركة وغيرها، وهذا أيضًا بديهي يتفق عليه الجميع.

أحد أنواع هذه الكائنات الحية هو الحيوانات، والتي لديها القدرة على إدراك العالم من حولها بالحواس، كما لديها ذاكرة تتذكر بها الأشياء والأشخاص الذين رأتهم من قبل -فتعرف القطط مثلا مالكها وبيتها الذي تعيش فيه-، كما لديها مشاعر كالألم والخوف، كما تقوم بسلوكيات مختلفة لجلب الطعام والشراب والدفاع عن نفسها وجذب الجنس الآخر، وكل هذا واضح ومتفق عليه.

 

الإنسان:

والإنسان هو أحد هذه الكائنات الحية، يتشابه مع الحيوانات في الوظائف السابقة لكنه يتميز عنها بأمور أخرى، إذ لديه مستويات أعلى من الإدراك كالقدرة على الفهم والتحليل أو الإدراك العقلي، كما يقوم بسلوكيات مختلفة عنها إذ يقوم مثلا ببناء الحضارات والأنظمة المعقدة، ووضع القوانين والقواعد الأخلاقية والاجتماعية، وهكذا. وهذا أيضًا شيء بديهي ندركه في أنفسنا بسهولة.

 

الجانب المعنوي والنفسي:

لكن ما هو الفهم؟ الإدراك؟ التحليل؟ القوانين؟ الذاكرة؟ الخيال؟ إنها من نوع الأمور المعنوية وليست الجسدية والمادية، وبالتالي فإن ما يميز الكائنات الحية والإنسان هو جانب معنوي غير مادي أو جسدي، وهو ما يطلق عليه البعض إطلاقات مختلفة، كالنفس والروح والقلب -المعنوي- والفؤاد وغير ذلك. لكنه ببساطة جانب معنوي غير جسدي سنسميه هنا بالجانب النفسي.

 

النفس الإنسانية:

وعلى مدى التاريخ والعصور حاول الإنسان أن يفهم سر اختلافه، ويفهم نفسه وحقيقتها، كما حاول أن يعالج ما يعتريه من أمراض وآفات واضطرابات نفسية.

واختلفت رؤية الإنسان لنفسه باختلاف الطريقة التي يتبعها في البحث، فالمدارس الحسية التجريبية حاولت تفسير النفس تفسيرًا ماديًا بحتًا مع استبعاد أية أمور معنوية وغير مادية.

والمدارس النصية حاولت هي الأخرى تفسير النفس وأحوالها وشؤونها باستخدام النصوص التي تؤمن بها فقط دون إعمال العقل بشكل منهجي وسليم في هذه النصوص وفهمها وتحليلها، وحتى دون التأكد من صحتها.

والمدارس العقلية حاولت تفسير النفس تفسيرًا عقليًا متوازنا.

 

الاتجاهات المادية:

إذن الاتجاهات التي لا تعتمد إلا على الحس والتجربة في البحث لم تر في الإنسان إلا جسدا ماديًا، وترى أن تميزه عن غيره هو مجرد تميز جسدي ومادي، كالاختلاف في تشريح المخ، والاختلاف في بعض العمليات الكيميائية في المخ، والاختلاف في هيئة الجسد وشكله وتشريحه أيضًا.

وقد تنوعت النظريات أو الآراء الناتجة عن المدرسة المادية تنوعًا كبيرًا في محاولة فهم النفس الإنسانية، وقد انقسمت إلى أربعة أقسام أساسية، هي المدارس الحيوية والاجتماعية والوظيفية والتحليلية.

 

المدارس الحيوية:

حاولت المدارس الحيوية -نسبة إلى علم الأحياء الذي يدرس أجسام الكائنات الحية- تفسير النفس الإنسانية ووظائفها ودوافعها ورغباتها وميولها تفسيرًا جسديًا بحتًا، فقد رأت هذه المدارس أن الحالات النفسية هي مجرد حالات جسدية عضوية بحتة، أو ناتجة عن أمور جسدية عضوية بحتة، وقد انقسمت لقسمين أساسيين.

 

المدرسة التشريحية العصبية:

القسم الأول يمكن وصفه بالتشريحي، وهو الذي حاول فهم الإحساس والإدراك والسلوك الإنساني بدراسة تشريح الجسم البشري.

فلكي نفهم الحس مثلا قامت هذه المدرسة بالتوسع في دراسة المستقبلات الحسية الموجودة في أعضاء الإحساس المختلفة، ودراسة الأعصاب التي تنقل الإشارات الحسية، ودراسة أجزاء المخ المختلفة التي تستقبل هذه الإشارات.

كما حاولوا دراسة الوظائف المختلفة للنفس كالذاكرة والخيال والإدراك بدراسة تشريح المخ البشري، فمثلا يلاحظ فقدان وظيفة معينة -كالذاكرة- عند تلف أحد أجزاء المخ، فيتم الربط بين هذا الجزء من المخ وبين الوظيفة المذكورة، وهكذا.

وفي دراسة الحركة الإنسانية أو السلوك الإنساني درسوا مراكز المخ التي تنشأ منها نبضات الحركة، وأعصاب الحركة، والعضلات وانقباضها، وهكذا.

 

نقدها:

لكننا في هذه الحالة ندرس الجسد في الحقيقة لا النفس أو وظائفها، فمثلا عندما ننظر للمخ البشري لا نرى فيه الحالات النفسية كالقلق أو الخوف! بل نرى فيه فصوصًا وأنسجة! وعندما ننظر تحت المجهر لا نرى الإدراك أو الفهم! بل نرى خلايا وأنوية! وهكذا.

أيضًا من الواضح أن مركز الإدراك في الإنسان واحد، أي أن ما يدرك فينا هو شيء واحد، فوعينا هو شيء واحد، وبإحساسنا بأنفسنا ندرك أننا شيء واحد. كذلك منشأ الحركة فينا واحد، إذ إن جسدنا كله يمكنه أن يتحرك حركة واحدة كوحدة واحدة، فلا تتحرك اليد وحدها والقدم وحدها واللسان وحده وهكذا!

وعندما ننظر في المراكز والخلايا والأنسجة نجدها كثيرة ومتعددة ومتشعبة، فما المصدر الواحد للإدراك الواحد وللحركة الواحدة؟ إن الدراسة التشريحية للمخ لم تجد قط خلية واحدة تنتهي لها الإشارات العصبية الحسية، ولم تجد خلية واحدة تبدأ منها الحركة كلها! بل إن كثرة الأجزاء المادية التشريحية يستحيل أن تفسر هذه الوحدة المعنوية!

وعلى المستوى التطبيقي كيف سنعالج المشكلات النفسية طبقا لهذه الرؤية؟ لا حل إلا بتدخل جراحي يزيل الجزء من المخ المسؤول عن الخلل! وهذا ما تم بالفعل! إذ قام البعض بعمل جراحة لإزالة الفص الأمامي أو الجبهي في بعض المرضى النفسيين! وهو ما لم يعالجهم بالطبع بل زاد من مشاكل الإدراك والوعي لديهم!

صحيح لو كان سبب الخلل النفسي ورم في المخ مثلا أو خلل عضوي يمكن إصلاحه بالجراحة فقد تتمكن هذه المدرسة من حل المشكلة، لكن هذا نادر الحدوث بالنسبة لجملة الأمراض النفسية.

هكذا فشلت المدرسة التشريحية العصبية وحدها في تفسير نفس الإنسان ووظائفها وسر تميزه، كما فشلت في علاج مشاكله النفسية، فماذا فعلت الاتجاهات المادية للتغلب على هذه العقبة؟ تابعونا.

 

اقرأ أيضاً:

تهذيب النفس – كيف تتهذب النفس البشرية؟ ( الجزء الأول ) – مقدمات هامة

غريب أمركم أيها الماديون!! – كيف يعرف الإنسان نفسه ويدرك سبب وجوده ؟

مبحث القيم في الفلسفة وإشكالاته – كيف ينظر المنهج التجريبي المادي للأخلاق ؟

أحمد عزت هلال

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا

مقالات ذات صلة