فن وأدب - مقالاتمقالات

جدل المكان والتاريخ في قصيدة القدس .. الجزء الثاني

جدل التاريخ

يتحدد التاريخ في عُرف عبد الله العروي على أنه: “مجموع أحوال الكون في زمن غابرٍ، ومجموع معلوماتنا حول تلك الأحوال”، وثمة اتفاق بين قبيلة المؤرخين شرقًا وغربًا على أن: “التاريخ المذكور هو مجموع العوارض والطوارق التي كانت تستحق أن تُحفظ”، غير أني أحسب في مرآة النقد الأدبي، أنه من الضرورة وعينا بالتاريخ على أنَّه ذاكرة الزمان والمكان والإنسان في فترةٍ ما، من ثّمَّ فالتاريخ ليس تدوينًا أو تسجيلًا فوتوغرافيًا للحادثات ولمحدثيها، وإنما نشاط فياض للتدبر والنظر، من حيث يُتيح لنا إمكان مشاهدة الماضي المنصرم عنَّا، ويمنحنا القدرة على سبره وتحليله واستنباط خلاصاته، وبه تتأسس فلسفة التاريخ القائمة على النظر والتدبر وفق الفلسفة الخلدونية والعروية على أنه: “مجال الحرية البشرية، إذ الوعي بالقدرة على الترجيح والاختيار ملازم للملاحظة والاستنباط”.

من حافةٍ أخرى، يتراءى لي التاريخ قارئًا للواقع في حركته الزمانية والمكانية معًا، وللإنسان في مغامرته الوجودية نحو غاياته الكارثية والمشروعة في آنٍ، لكنه قارئٌ نخبوي، يعمد إلى اصطفاء ذروة الحادثات، والوقوف على الأشياء والشخوص ذوي القيمة العليا. لذلك فإنَّ التاريخ وفق الرؤية النخبوية والاستثنائية قارئٌ غير محايدٍ، بل غالبًا قارئٌ غير أمينٍ، لأنه في صميمه يمثِّل ممارسةً إنسانية تخضع لشرائط العصر الذي كُتب فيه التاريخ بما فيها من إكراهات السياسة والتحيزات الطائفية والاجتماعية والدينية والثقافية، إنَّه من المستقر في أدبيات التاريخ والسياسة والثقافة أن التاريخ يُكتب برؤية المنتصر ووِفق فلسفته، بما فيها من متخمات ذرائعية تُخَدِّمُ على أهدافه الشخصانية. وهذا الوعي بشخصانية التاريخ، أو بنخبويته الاصطفائية والذرائعية، تملي علينا الحذر في علاقتنا بالحادثات ضمن السياق التاريخي وشرائطه الإكراهية، الشأن الذي يحتِّم التساؤل عن حقيقة الحقيقة الكائنة في المرآة التاريخية، ومدى مطابقتها للواقع في خصوصَيْه الزماني والمكاني معًا.

ظنِّي أنَّ البرغوثي اشتغل شعريًا على استثمار هاته المقولات كلها المتعلقة بالانحياز التاريخي. لكنَّ مائز التشعير النصي ركَّز على البُعد التخييلي الذي خلق من التاريخ كيانًا إنسانويًا يحادثه، ويجادله عبر ميكانزم البلاغة الاستعارية المكنية في قوله:

وَتَلَفَّتَ التاريخُ لي مُتَبَسِّمًا

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أَظَنَنْتَ حقًا أنَّ عينَك سوفَ تخطئهم، وتبصرُ غيرَهم

ها هُم أمامَكَ، مَتْنُ نصٍّ أنتَ حاشيةٌ عليهِ وَهَامشٌ.

إنَّ هذه الصورة المفعمة بلاغةً بأثر الاستعارة التي تنوعت، وتمددت في شِعاب التشكيل المكاني والزماني للمعنى–كبد حقيقة المأساة الفلسطينية، وإشكال تأريخها مزورةً من الصهاينة الذين اصطنعوا زورًا وبهتانًا وطنًا غير الوطن الحقيقي، وواقعًا غير الواقع، وتاريخًا ملفقًا بقوة السلاح والقهر والجبروت. لقد تحوَّل الصهاينة العابرون في المكان إلى “متن نص”، فيما العربي “حاشيةٌ وهامشٌ عليه”. وهذا الواقع يزداد شعريةً بفعل السخرية التي يمارسها التاريخ “المتبسم” على الشاعر والواقع معًا. ها هو التاريخ يصدم البرغوثي بالحقيقة المُرَّةِ:

في القدسِ كلّ فتى سواكْ.

فمفارقة الوجود والعدم، أو الحضور والغياب، أو الاحتلال والنفي، هي عين الحقِّ والحقيقة في القصيدة وفي القضية الفلسطينية في آنٍ. والتاريخ المكتوب بالمداد الصهيوني، وكذلك التاريخ المتخيل في النص الذي أقامه الشاعر على عينه مستوحيًا إياه من المقولات الإسرائيلية، يدعمان كثافة الرؤية المأساوية في النص البرغوثي عبر خطابٍ سياسيٍّ وقوميٍّ وإعلاميٍّ، باذخٍ في زيفه وفادحٍ في جُرْمِه. إنَّ شعرنة التاريخ في النص كي يحل في الحجاج محل الصهاينة، هو قسطٌ من مدار الفنية الشعرية التي تجعل من استعارة التاريخ بُعدًا سرديًا وأسطوريًا، ليس بالمعنى الإدهاشي فقط لكن بمعنى مغايرة الواقع، ومنافاة الحق والحقيقة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

في انعطافةٍ رؤيوية، يمهد البرغوثي لتفكيك عقدة التاريخ والمدينة والقصيدة معًا، وذلك باستحضار شخصية “كاتب التاريخ” مستمهلًا إياه، لا “التاريخ” ذاته. إنه فعل استدراك وتمرد على المعطيات السابقة كلها في القصيدة، تلك التي راكمت عقدة الاستلاب الوطني والإنساني في المأساة الفلسطينية. يبرع البرغوثي في تكنيك التفكيك عبر ثنائية الدهر أو الزمن، إذ يكشف عن مفارقة السر والعلن الدهرية، إذ المدينة دهرها دهران:

يا كاتبَ التاريخِ مَهْلًا،

فالمدينةُ دهرُها دهرانِ

دهر مطمئنٌ لا يغيرُ خطوَه وكأنَّه يمشي خلالَ النومْ

وهناك دهرٌ، كامنٌ متلثمٌ يمشي بلا صوتٍ حِذار القومْ.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وفي تنامي السياق الجدلي التاريخيي في القصيدة، يعمد الشاعر إلى حشد سيل من تتابع البِنَى التعبيرية ذات الحساسية التصويرية والسردية التي تنطق بلسان الحجاج وحدة الأجوبة، مبيِّنًا أنَّ كلَّ ما في القدس ينقض رواية الصهاينة، ويدعم الحق العربي والفلسطيني فيها. تأمل هذا التحشيد الصوري في القصيدة الذي تدفق على مدى أحد عشر سطرًا شعريًا تبدأ كلها بقوله: “في القدس”، ثم يشرع في التوسع في الوصف والسرد محيِّثًا الرؤية والصورة الحجاجيتين بقسط مذهل من التعبيرية الشفيفة الآخذة بتكثيفها الشعري. إن كل دفقة من هذه الدفقات التعبيرية بيان حالٍ ولسان برهانٍ، كما في السطور الثمانية الآتية:

– في القدس يزدادُ الهلالُ تقوسًا مثلَ الجنينْ..

– في القدس أبنيةٌ حجارتُها اقتباساتٌ من الإنجيلِ والقرآنْ..

– في القدس تعريفُ الجمالِ مُثَمَّنُ الأضلاعِ أزرقُ..

– وفي القدس السماءُ تَفَرَّقَتْ في الناسِ تحمينا ونحميها..

اضغط على الاعلان لو أعجبك

– في القدس أعمدةُ الرُّخامِ الداكناتُ..

– في القدس مدرسةٌ لمملوكٍ أتى مما وراءَ النهرِ..

– في القدس رائحةٌ تُلَخِّصُ بابلًا والهندَ في دكانِ عطارٍ بخانِ الزيتْ..

– في القدس يرتاحُ التناقضُ، والعجائبُ ليسَ ينكرُها العِبادُ..

غيرَ أن القصيدة تصل ذروة الاستقراء التاريخي الذي يمارسه هنا الشاعر على كاتب التاريخ المنحاز، ليؤكد له في صيغة حاسمةٍ أن القدس مكان عانق التاريخ الإنساني في سيرورته المتعاقبة، فالأمم والحضارات كلها لها بصمتها فيها، بما يفكك الزعم الصهيوني بيهودية المدينة، وحبسها على المحتلين:

الكل مرُّوا من هُنا

فالقدسُ تقبلُ من أتاها كافرًا أو مؤمنا.

فيها كلُّ من وطئَ الثَّرى.

لقد لعب البرغوثي على مغزى مفارقة واقع الحقيقة والتاريخ المزيف، الذي جعل من العربي الفلسطيني هامشًا وحاشيةً على متن الكتاب القدسي والفلسطيني، لكنه حين بالغ في التأزيم السردي للواقعة النصية والتاريخية، شاء أن يُنيرها بتفكيك إلغازها بخطابٍ مباشرٍ إلى كاتب التاريخ، يطلب منه إعادة كتابة الحقيقة وقراءة الواقع، فقد ارتكب جناية اللحن في كل ما سطَّره زورًا وبهتانًا:

يا كاتب التاريخِ ماذا جَدَّ فاستثنيتنا

يا شيخُ فلتُعِدِ الكتابةَ والقراءةَ مرةً أخرى، أراك لَحَنْتْ.

أمَّا ذروة حلِّ الأزمة، فقد حملها قُفْلُ القصيدة الذي مكَّن لفعل استعادة مكينٍ، وضع الأمور في نصابها التاريخي والحقيقي، وذلك بتبوُّؤ العربي متن الكتاب وحضوره في قلب القدس، التي لا يرى الشاعر فيها أحدًا غيره رغم كثرة الزبد وعظم الفقاقيع، التي تطفو على سطح المدينة وتعجُّ بها أزقتُها.

لقد كان منظر المرآة التي ختم بها الزيارة شفيفًا في تعبيريته وتأثيريته، حتى لكأنَّه كثَّف رواية طويلةً في هذا الوميض المرآويِّ، الذي استخلص عبره عبق المكان وحكمة التاريخ ونبوءة الغيب وخلابة البشارة في لحظةٍ واحدة. هكذا يتنفس الشاعر، ومعه قارئه العربي، الصعداء عن طريق نشوة التفاؤل التي داهمت الغيب وهتكت أسرار المجهول، لتكشف عن الافتتان بالأمنية التي تدغدغ أعصاب الفلسطيني، وتراود منه مفاتن الحلم الجميل:

لا تبكِ عينُكَ أيها المنسيُّ من متنِ الكتابْ

لا تبكِ عينُكَ أيها العَرَبِيُّ واعلمْ أنَّهُ

في القدسِ من في القدسِ لكنْ

لا أَرَى في القدسِ إلا أَنْت.

نسج البرغوثي رائعته التعبيرية الشفيفة التي مثَّلت جواز سفره إلينا، حين لامس بها شِغاف قلوبنا، وذلك على نول ثنائية ذات تقاطب صراعي بين المكان: الواقع والمتخيل، وبين المكان والتاريخ، والتاريخ: الحقيقي والمزيف، وبين الوطن والاحتلال، والوطن والمنفى، والمتن والهامش، والحضور والغياب، والسرد والوصف، والغنائية والدرامية، ونغم الطويل في المقطع الاستهلالي ونغم الكامل في بقية القصيدة.

لقد تصاعدت وتيرة التوتر الدرامي في النص بفعل تعدد الأصوات وتغاير الهويات وتصارع الرؤى وتباين المواقف، وكان تميمٌ في ذلك كلِّه مشغولًا حتى منتهاه، بنبرةِ خطابٍ ذي رسالةٍ مشحونةٍ بطاقةٍ قصوى من الحجاج إزاء الخصم الصهيوني، ومترعةٍ بشعورٍ فوَّارٍ، مزج بين المنطق عبر الاستقراء والاستنباط، وبين الجمال عبر أحابيل البلاغة التقليدية التي أخذت على عاتقها القسط الأهم من مسؤولية شعرنة القصيدة، إلى أن أسلمتها هادئةً إلى ختامها البشاري أو التفاؤلي.

نعم، حُقَّ لتميمٍ أن يحاججَ، وحُقَّ له أن يتفاءل متكئًا على ذخيرة التاريخ ومنطق الأشياء، لكنِّي أخشى ما أخشاه، وقد جرى النَّصُّ المنظوم مبكرًا في حومة شبابٍ بلا رَشَدٍ كافٍ، أن يكون الشاعر قد نسج رؤاه الحالمة على نسق الأفلام الروائية في السينما العربية، تلك الحكايات التي تبدأ عادة بأزمةٍ وأتراحٍ، ثم لا تلبث أن تنتهي بزواجٍ وأفراحٍ. ولئن كان المغزى من النصِّ البرغوثي فضح اختلالات التاريخ وتعرية زيفه، عبر كشف المفارقات التي تتوالى في القصيدة تترى، حتى يُثبت يقينًا عروبة القدس، ويبدد خرافات بني صهيون ناقضًا خطابهم الاحتلالي والإقصائي، فلعلَّه كان من الأليق بالنهاية أن تكون وخزًا عنيفًا للذاكرة العربية والإنسانية حتى تستفز طاقاتها القصوى، وتحرِّض معطياتها الكسلى لكي تسترد الحقَّ السليب بدلًا من دغدغة الأماني التي لا تعدو أن تكون في نهاية المطاف، محضَ قبضِ ريحٍ لا تظفر منه بشيءٍ ذي طائلٍ، ولا تغنم منه ثرًّا ذا بالٍ.

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

لماذا القدس؟

المجد لمن قالوا بأعلى أصواتهم: فلسطين عربية

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د. عبد الرحمن عبد السلام محمود

أستاذ النقد الأدبي الحديث بكلية الألسن جامعة عين شمس وكلية أحمد بن محمد

مقالات ذات صلة