فن وأدب - مقالاتمقالات

جدل المكان والتاريخ .. الجزء الأول

في قصيدة: "في القدس" لتميم البرغوثي

مُذْ عرفتُه على فضائية “أبو ظبي” في برنامج “أمير الشعراء”، أدركتُ فيه نجابة الشعر، إذْ كان لحضورِه طلَّةٌ وإشراقٌ، ولإلقائه نداوةٌ وسحر بلاغةٍ وفصاحةٍ تخلبان الألباب، ثُمَّ أفسحتُ للرؤية النقدية مداها الاستشرافيَّ، فأبصرتُه يتبوَّأُ مكانًا عليًا في سُدَّةِ الشعرية العربية المعاصرة، ذلكم هو الكهل الفلسطيني تميم البرغوثي المولود عام 1977م، والأستاذ الأكاديمي في العلوم السياسية، وسبط الأكرمين الأديبين الكبيرين: مريد البرغوثي، الشاعر المرموق في خارطة الشعر الفلسطيني والعربي، ورضوى عاشور، الأستاذة الجامعية، والروائية المصرية صاحبة “ثلاثية غرناطة”.

ويبدو لي أنَّه من الأهمية بمكانٍ، إدراك القارئ مبكرًا، أن لشعرية تميم البرغوثي روافد أكسبتها إثراءً وإغناءً عظيمين، لعلَّ أهمها ذلكم الجين النووي الجمالي الذي اكتسبه من والديه إرثًا بحكم الميلاد، ثُمَّ بحكم المُناخ البيئي الذي نشأ وترعرع فيه حتى استوى على عوده فتًى صُلبًا في معترك الشعر العربي، فكأنَّه يذكرك بالبيوتات العريقة في الشعر العربي، مثل بيت زهير بن أبي سُلمى وولديه كعب وبجير، وبيت طرفة بن العبد البكري وخاله المتلمس. أضف إلى ذلك، أن تميمًا وَرِثَ ضمن ما ورثه عن أبوين، ما يمكن وسمه بـ: “شعرية القضية الفلسطينية” في تجليها المقاوم للاحتلال الصهيوني، وفي هذا الميراث –تحديدًا– تتمدد ثروة تميم الشعرية والأدبية لتتجاوز أباه مريدًا البرغوثي الشاعر، إلى الإرث الشعري الفلسطيني كافة وعلى رأسه محمود درويش في نزوعه المقاوم، وفي ارتياده حداثة الشعر العربي صاحب الرسالة الجمالية، وصاحب القضية الفلسطينية التي تعاظم أثرها وسيعًا، بحيث تجاوز فلسطين والعروبة، إلى دنيا البشر كافةً، وعالم الإنسانية أجمعين.

غيرَ أنَّه من نَصَفَةِ النقد، الوحي بأنَّ الإراث المتعددة التي احتازها تميمٌ عن غير قصدٍ منه، ما كان لها أن تؤتي أُكُلَها يانعةً في خارطة الجمالية العربية ما لم تصدف في سبيلها موهبةً حقيقيةً مواتيةً في طبعها، وفخيمة في ثرائها، وحادة في ثقْفِها ورهافة حِذْقِها ولُمَعِها. لقد هيَّأت الإراث أو المواريثُ لتميمٍ معطيات الوعي الفني، وقرَّبت له مسافات الخلق والإبداع، لكنها لم تُلقِ بمُهَجِها الجمالية في أرضٍ بوارٍ، وإنَّما أودعتها مطمئنةً في مهادٍ فذٍّ، وذهنٍ فطنٍ، وفؤادٍ ذي جنانٍ، ولسانٍ ذربٍ ذي سحرٍ وبيانٍ، فكان عُصارة ذلك كلِّه، الشعر والشاعر على نحو ما رأيناهما فتنةً وتميزًا.

من حافةٍ أخرى، تمثِّل قصيدة البرغوثي: “في القدس”، جواز سفره إلى الناس جميعًا، وقد أطلَّ بها علينا في مُناخٍ مفعمٍ بألق الشباب، ومتخم بحيوية الشعور الانفعالي الذي يقاوم في حومة أزمة وجودية بحجم وطنٍ سليبٍ، بل بحجم أمةٍ تتآلك أطرافها، وتتهاوى عُمُدُها وفي القلب منها أَلَقُها المقدس “القدس” المغصوبة بقوة السلاح الصهيونيِّ اللعين. فتميم، ومن ثَمّ قصيدتُه خاصة، وتجربتُه الشعرية عامةَ، شاعر قضيةٍ، ونصُّه نصٌّ مقاومٌ تتناسل ذراريه في خلايا النصوص الأخرى مهما اختلفت إهاباتها، وتغايرت ألوانها. والقضية هنا قضية وطنٍ مغصوبٍ، ومواطنٍ مقهورٍ في وطنه، ومأسور بحكم جبروت المحتل الغشوم. ولا يجوز لنا في الرؤية النقدية، الفصل بين الوطن والمواطن أو الشعر والشاعر، بل علينا إدراكهما معًا من دون الفصل الاعتسافي بينهما، إذ يتشكل المكان والإنسان في كِيانٍ واحدٍ مندغمٍ ومتكاملٍ ينبض حيويةً وتفجرًا ومقاومةً. القضية –إذًا– ليست قضية مكان تجريدي أو مكان فيزيائي فقط، وإنَّما قضية مكانٍ تمت أنسنتُه، وشعرنتُه، فتفاقمت مأساتُه، بحيث أضحت تلامس شغاف القلوب لدى الإنسانية كلها في مشارق الأرض ومغاربها. ذلكم كلُّه يكاد يصبُّ في شعرية النص البرغوثي، ويعرج به إلى سماوات من النصاعة والتأثيرية المفرطتين مجانًا، إذْ ليس لتميمٍ أثر فضل أو تميز في هذا كله، إنَّما هو، بأتراحه وأفراحه، ضمن زمرة الإرث الذي هو حقٌّ مكسوبٌ مثلما هو قدرٌ مكتوب بحلوه ومرِّه معًا. من هذا المولج خاصةً، نلج قصيدة البرغوثي كي نقاربها نقديًا من حيثية الجدل المكاني والتاريخي، حتى نستبين مائزها، وذلك عبر الفقرتين الآتيتين:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

جدل المكان

ثمة علاقةُ محايثةٍ بين المكان والتاريخ، من حيث إنَّ المكان هو بيت التاريخ، أو إن شئتَ قلت: إنَّ المكان يمثِّل الفضاء المسرحي الذي تشتغل عليه حادثات التاريخ، وتلعب فيه وفوقه، شخصياتُه أدوارها بأريحية كاملة. ولعلِّي لا أبوح لك بسرٍّ إذْ أوحيتُ إليك أنَّ شعرية النص التميمي أو النص الدرويشي، أو النص الفلسطيني عامة، هي شعرية مكانٍ بالأساس، مكان يكبر ويعظم حتى يتغشَّى وطنًا كاملًا، وأمةً بأجمعها. لكن علينا أن نتجاوز الآن هذا الاستنتاج الباكر، كما علينا مفارقة التاريخ والمكان المعياريين إلى المكان والتاريخ الشعريين في حيزٍ نصيٍّ محددٍ هو قصيدة: “في القدس” للبرغوثي.

أنت حين تتأمل القصيدة في غير عنتٍ مما درج عليه شعر الحداثة وما بعدها من إعتامٍ وإبهامٍ، ستدرك سريعًا أنَّك إزاء نصٍّ مكانيٍّ بقدر كونه نصًا شعريًا تعبيريًا، أي إن الشعرية في النص تتكئ على المكان، وتتفجر منه عارجةً به إلى دنيا من عوالم المأساة والفن. إنَّ “القدس” هي المكان المكين في النص، وأول آليات تشعير المكان والنص معًا، هو قداسة المكان بحكم المرجعية الدينية التي جعلت من القدس حرمًا مقدسًا، ومن المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين، كما أن عبق الأركيولوجيا في المكان يمنحه بُعدًا مرآويًا تنعكس عليه سيرورة حضارات كثيرة منذ القدم بما فيها من أمشاج تختلط وتتفاعل في تناغم خلَّاق أكسب القدس خصوصيةً دينيةً وتاريخيةً وثقافيةً وجماليةً، بحيث تكاد تتحول إلى أيقونة المكان في العالم واقعًا ومتخيلًا في آنٍ.

من هنا علينا أن نقارب النص ونحن نعي زمرة دلالات مكانية أقلها المكان المادي أو الفيزيقي، وأعلاها المكان النفسي الذي يشحن النصَّ باختلاجاته التخييلية، ويُحبِّله بأفانين الدهشة والجمال الشعريين، كما يمنح الصور أبعاد تضاريسها وأنساقها التأطيرية. هكذا يستنزل الشاعر في استهلاله الشعري “القدس” منزلة الحبيبة التي يزورها، فيمنعه الأعداء الغاصبون إياها من الزيارة. لقد أفلح الشاعر الفتي حين اصطنع مطلعًا شعريًا شفيفًا له فعل السحر الذي يخلب الألباب، ويغزو بأسنته شغاف القلوب، إذْ عمد عمدًا عن سبق إصرارٍ وترصدٍ، إلى استثمار معطيات الطلل في الذاكرة العربية، ومغناطيسية الحب في غوايته الشعورية والعاطفية، بحيث تجلت القدس/المكان حبيبًا ممنوعًا من الوصال، هكذا نلج فوهة النص البرغوثي الأثير في غنائيته، وتعبيريته عبر ستة أبيات كاملة منظومة عموديًا على تفعيلات البحر الطويل بإمكانياته التي تكفل الشجن، وتزفر بالبوح العليل.

يقول في الأبيات الثلاثة الأولى:

مَرَرْنا عَلى دارِ الحبيب فرَدَّنا

اضغط على الاعلان لو أعجبك

عَنِ الدارِ قانونُ الأعادي وسورُها

فَقُلْتُ لنفسي رُبما هِيَ نِعْمَةٌ

فماذا تَرَى في القدسِ حينَ تَزُورُها

تَرَى كُلَّ ما لا تستطيعُ احتِمالَهُ

إذا ما بَدَتْ من جَانِبِ الدَّرْبِ دورُها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يبدأ النص بدلالةٍ مكانية كثيفة هي “دار الحبيب” لكنَّك لا تلبث أن تُدرك أن عملية التشعير نقلت الذاتي إلى الموضوعي، والجزئي إلى الوطني الكلي، فالدار هي القدس، والحبيبة هي القدس أيضًا. ومن اللافت شعريًا مهارة البرغوثي في فتح دائرة المعنى الاستهلالي على الأطلال ذات الأسر الشفيف عامةً، وعلى ملامسة نصوصٍ ذات دلالٍ وحضور بابليٍّ في الذاكرة الشعرية العربية خاصة مثل نص المتنبي الشهير:

مررتُ على دار الحبيبِ فحمحمت: جوادي وهل تُشجي الجيادَ المعاهدُ؟

أو نص المجنون:

أمرُّ على الديار ديارِ ليلى: أقبِّلُ ذا الجدارَ وذا الجدارَا

وما حبُّ الديارِ شَغَفْنَ قلبي: ولكن حبُّ من سكنَ الديارَا.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إنَّ المكان/القدس تحوَّل بفعل الشحنات الشعورية إلى متخيل شعري ذي جاذبية مغناطيسية باهرة، وهذا من حسن الاستهلالات التي تأخذ النفوس والقلوب أخذًا على حين غرَّةٍ، وكأنَّها تسرقها من عقلها، وتفتكها من عقالها، لتستغرق بها في غواية الحبِّ، وتستنوم لخدره المعهود. لكن القصيدة تفجؤك بانعطافةٍ تحويلية تنقل المعنى والرؤية من لدانة العاطفة إلى وطيس المعركة الضروس، إذْ القدس ممنوعة بفعل قانون العدو الصهيوني المحتل، وبحكم السور الذي بناه حولها ليحجبها عن أهلها الحقيقيين. هنا بؤرة تفجر المعنى ومربط فرس القصيد في النص كله، إذ يتفاقم المعنى الشعري إلى إشكالية تظل تنداح في دوائر متعاقبة ومتغايرة في ألوانها إلى منتهى القصيدة، لعلَّ أولها الرؤية البئيسة التي تتمظهر عليها القدس مكانًا ومكانةً، إذ يُقرُّ البرغوثي لنفسه ولك، أنك سوف “ترى كل ما لا تستطيع احتماله” فيها لسوء ما آلت إليه:

تَرَى كُلَّ ما لا تستطيعُ احتِمالَهُ

إذا ما بَدَتْ من جَانِبِ الدَّرْبِ دورُها.

غيرَ أنِّي أرى أن تشعير المكان قائم في صميمه، على تكنيك المفارقة بين الواقع والتاريخ من حافةٍ، وبين الجزئي الخاص، والشيوع العام من حافة ثانية. فالقدس بهويتها العربية الإسلامية التي تمتاز بها من أغيارها التاريخية، أصبحت موئلًا مستباحًا ومشاعًا لكل الهويات المتناقضة، إذ ترصد فيها اختلاط الحابل بالنابل على نحو ما يتجلى في الصنوف الآدمية الآتية: ” بائعُ خضرةٍ من جورجيا برمٌ بزوجته، توراةٌ وكهلٌ جاء من منهاتن العليا يفقه فتية البولون في أحكامها، شرطي من الأحباش، مستوطن، سياحٌ من الأفرنج شُقْرٌ، امرأة تبيع الفجل، جندٌ يدبون على الغيم”.

إن النص حال استحضاره كل هذا الخليط البشري، يتعمد تغييب العربي الذي هو أصل الأصول في القدس، كما يُظهر هامشيته ومنعه من الصلاة في المسجد الأقصى ليصلي على الأسفلت: “في القدس صلينا على الأسفلت”، وبه تصل الدلالة الشعرية ذروة تحييث الأزمة بهذا الغياب القسري المتعمد:

في القدسِ مَن في القدسِ إلا أنْتْ.

هذه هي جملة المأساة، وهي الجملة المركزية أو الجملة المفتاح في النص. لقد غرر بنا البرغوثي عبر أحابيله الشعرية المترعة لوعة وشعورًا محتدمًا، إلى أن ألقى بنا وجهًا لوجهٍ في كبد الإشكالية المزمنة، بل المتفجرة، حيث تشظي الدلالة بفعل التقاطب بين ثنائيات متصارعة ومتضادة عديدة، مثل: حضور الآخر ضد غياب الذات، مركزية الأجنبي ضد هامشية العربي الفلسطيني، الواقع ضد التاريخ، المحتل ضد صاحب الوطن، الباطل ضد الحق، انتهاك القيم والقوانين الإنسانية والدولية ضد منظومة القانون والحق والخير والجمال، القهر والجبروت ضد الحرية والعدل. إنَّ كلَّ شيءٍ في القدس يستدعي نقيضه باعتمال المتناقضات كافة في التبئير المكاني المقدس، الشأن الذي يعلو بالمعنى الشعري البرغوثي إلى مصافه الشعورية العليا، ويهتبل الفرصة التخييلية لجذبنا إلى فضائه بفعل خلابة البيان التعبيري، الذي حوَّل المكان الفرد إلى رحمٍ أرضية تحتشد في أحشائها عوامل الضغينة وتجليات الصراع كافة. وهذا وحده ما ينقلنا إلى الفقرة الثانية.

مقالات ذات صلة:

الشعر والعِلم

يا زمان الوصل بالأندلس

تأثير الموروث الشعبي على النخب الثقافية

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د. عبد الرحمن عبد السلام محمود

أستاذ النقد الأدبي الحديث بكلية الألسن جامعة عين شمس وكلية أحمد بن محمد

مقالات ذات صلة