قضايا وجودية - مقالاتمقالات

العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء الخامس

المدرسة المشَّائية: (3) الكِنْدِي: فيلسوف العرب الأول

 “رسالة الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى” (2)

تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة (الجزء الرابع)، عن أول فلاسفة المدرسة المشَّائية: الفيلسوف الكِنْدِي. ولنواصل –في هذه الدردشة– بقيةَ حديثنا عن الكِنْدِي وكتابه: “رسالة الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى”.

تعريفُ الفيلسوفِ الكامل: المحيطُ بعلمِ الفلسفةِ الأولى

بعد أن عرَّف الكِنْدِي الفلسفةَ والفلسفةَ الأولى، يعرف الفيلسوفَ الكاملَ، وفي ذلك يقولُ: “ولذلك يجبُ أنْ يكونَ الفيلسوفُ التامُ الأشرفُ هو المرءُ المحيطُ بهذا العلم الأشرف”. ويقصد الكِنْدِي بالعلم الأشرف علمَ الفلسفة الأولى، الذي هو العلم الإلهي، أو علم ما بعد الطبيعة. وهذا الفيلسوف قد وصلته الفلسفة عبر الأوائل وقدماء اليونان فواجبٌ عليه شكرُهم.

واجبُ شكرِ السابقين: شركاءُ ثمارِ الفكرِ الإنساني

قد يقول قائلٌ: “لقد أخذنا الفلسفةَ عن أقوام سابقين علينا، وليسوا من ديننا، وليسوا من عقيدتنا، وقصروا في الوصول إلى بعض الحق!”، فبماذا يرد الكِنْدِي على هذا القائل؟ يقول الكِنْدِي: “من أوجب الحق ألا نذمُ مَنْ كانَ أحدَ أسبابِ منافعنا الصغارِ الهزيلةِ، فكيف بالذين هم أكبرُ أسباب منافعنا العظام الحقيقية الجِديّة؟ فإنهم وإن قصروا عن بعض الحق، فقد كانوا لنا أنسابًا وشركاءَ فيما أفادونا من ثمارِ فكرِهم، التي صارتْ لنا سبلًا وآلاتٍ مؤديةً إلى علم كثيرٍ مما قصروا عن نيل حقيقته، فينبغي أنْ يعظمَ شكرُنا للآتين بيسيرٍ من الحق، فضلًا عمن أتى بكثيرٍ من الحق، إذ أشركونا في ثمارِ فكرِهم”. وهذه نظرةٌ رَحْبةٌ من الكِنْدِي وثقافةٌ إنسانيةٌ عالميةٌ، منفتحةٌ على كل الشعوب ومختلف الثقافات، ولأن معرفة الحق لا يكفيها عمر فردٍ أو فيلسوف واحد..

معرفةُ الحقِ أوسعُ من نطاقِ الفرد

كذلك فإن الفرد الواحد لا تتسع حياته كلُها لكي يصلَ إلى كل الحق، فمهما بذلَ من جهد فهو بحاجة إلى غيره من السابقين عليه، ممن وصل إلى بعض الحق من الأمم السابقة، فيأخذه ويبني عليه ويتوسع فيه. وفي ذلك يقول الكِنْدِي: “وغير ممكن أن يجتمع في زمن المرء الواحد، وإن اتسعتْ مدتُه، واشتدَّ بحثُه، ولَطُفَ نظرُه، وآثر الدأبَ، ما اجتمع بمثل ذلك من شدَّة البحثِ وإلطاف النظر وإيثار الدأب في أضعاف ذلك من الزمان الأضعاف الكثيرة”. لذلك قَيَّدَ الكِنْدِي تعريفَه للفلسفة وبأنها علم الأشياء بحقائقها بقوله: “بقدر طاقة الإنسان”. فالفلسفة تحتاج إلى تضافر الجهود عبر كل العصور، وهذا هو عين عظمة الإنسان، وغاية اقتنائه للحق.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

اقتناءُ الحقِ شرفٌ لطالبِه بصرف النظر من أين أتى هذا الحق

e3cc9c5aaa514b251f3d61cf156bc930.jpeg - العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء الخامس

يقول الكِنْدِي: “وينبغي لنا ألا نستحيي من استحسان الحق واقتناء الحق من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصية عنا، والأمم المباينة لنا، فإنه لا شيءَ أولى بطالبِ الحق من الحق”. وهذا ما لا يعجب –في كل زمان ومكان– أعداءُ الفلسفة.

أعداءُ الفلسفةِ: أهلُ الغربةِ عن الحق

أما أعداءُ الفلسفة، فيسميهم الكِنْدِي اسمًا دالًا: “أهل الغربة عن الحق”. وهم أهل غربة “وإن تتوجوا بتيجان الحق من غير استحقاق”. فقد استحكم الحسدُ وتمكن من قلوبهم، وجعلهم لا يبصرون نورَ الحق، فوضعوا ذوي الفضائل الإنسانية –وهم الفلاسفة– موضعَ الأعداءِ، حتى يكرههم الناسُ ويتهمونهم، وينصرفونَ عنهم فينصرفونَ عن معرفة الحق. ولماذا يفعل أهلُ الغربة عن الحق ذلك؟ يجيبنا الكِنْدِي: “لأنهم يدافعون عن كراسيهم المزورة”، أي عن مناصبهم التي تجعلهم رؤساءَ للعامة من الناس، والتجارة بالدين، وهم عدماء الدين، الذين يسمون علمَ الحق الأول كفرًا!

نلاحظ هنا أن الكندي يخاطب مَنْ؟ إنه يخاطبُ أعلى سلطةٍ في العالم الإسلامي، الخليفةَ المعتصمَ بالله، ويحذره من فقهاءِ العصرِ ومتكلمي العصر، المعادين للفلسفة وعلوم الأوائل، الذين يمكنهم أنْ يضعفوا أركانَ دولته، وأنْ يهدموا أسسَها، التي من المفترض أن تكونَ مبنيةً على العلم والفلسفة، فيحذره من أهل الغربة عن الحق هؤلاء، ومن نتيجة عملهم الذي قد يُوْدِي –في النهاية– بالدولة ذاتها، لأن بقاءَ الدولةِ وتقدمها واستمرارها مرهونٌ بالأخذ بالعلم والفلسفة. فالفلسفة إذن قُنْيَةٌ نفيسة.

القُنْيَةُ النفيسةُ وما جاءتْ به الرُسُلُ: موضوعٌ واحدٌ

بماذا جاءتِ الفلسفةُ؟ وبماذا جاء الرُسُلُ عليهم السلام؟ يقول الكِنْدِي: “لأنَّ في علمِ الأشياء بحقائقها (أي الفلسفة) علمَ الربوبية، وعلمَ الوحدانية، وعلمَ الفضيلة، وجملةَ كلِ علمٍ نافعٍ والسبيلَ إليه، والبعدَ عن كلِ ضارٍ والاحتراس منه، واقتناء هذه جميعًا هو الذي أتت به الرُسُلُ الصادقةُ عن الله، جلَّ ثناؤه. فإن الرسل الصادقة –صلوات الله عليها– إنما أتتْ بالإقرار بربوبية الله وحده، وبلزوم الفضائل المرتضاة عنده، وترك الرذائل المضادة للفضائل في ذواتها، وإيثارها. فواجبٌ إذن التمسكُ بهذه القُنْيَةِ النفيسةِ (أي الفلسفة) عند ذوي الحق، وأنْ نسعى في طلبها بغايةِ جهدنا”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصلُ بقية حديثنِا عن فلسفة فيلسوف العرب الأول الكِنْدِي وكتابه: “رسالة الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى”.

مقالات ذات صلة: 

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الجزء الرابع من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*********

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أ.د شرف الدين عبد الحميد

أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب جامعة سوهاج

مقالات ذات صلة