مقالات

حين وقع سقراط في الحب – الجزء الأول

هل وضعت امرأة أسس الفلسفة الغربية؟!

في كتابه «حين وقع سقراط في الحب: صناعة فيلسوف»Socrates in Love: The Making of a Philosopher، الصادر في مارس من سنة 2019 عن دار «بلومبزبري» Bloomsbury البريطانية، يُقدم الكاتب والموسيقي البريطاني «أرماند دانجور» Armand D’Angour (أستاذ الكلاسيكيات بجامعة أكسفورد Oxford University) طرحًا مثيرًا وجديرًا بالنظر حول حياة «سقراط» المُبكرة، ومدى تأثير فترة الشباب بما فيها من زخمٍ عاطفي على الرجل الذي نثر بذور الحكمة في أثينا، ودافع عنها حتى حوكم وأعدم إيمانًا بها!image 2022 01 09 19 33 32 300x247 - حين وقع سقراط في الحب - الجزء الأول

نقاش «سقراط» و«أسباسيا» – المصدر:

https://pushkinmuseum.art/data/fonds/europe_and_america/j/2001_3000/zh_1248/index.php

الكتاب لا ينبش فقط في أحداث تلك الفترة المُبكرة المُهملة من تاريخ الفلسفة، بل يسعى بقوة إلى رسم ملامح الدور المُستبعد –ربما عمدًا– للمرأة في صياغة مصفوفة الأفكار الفلسفية الكُبرى عبر تاريخها، متسائلًا: من أين استقى «سقراط» (الشخصية التأسيسية للفلسفة الغربية) الإلهام لأفكاره الأصلية حول الحقيقة والحب والعدالة والشجاعة والمعرفة؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ولماذا يتغاضى مؤرخو الفلسفة عن فترة شبابه في أثينا إبان القرن الخامس قبل الميلاد، حين كان على علاقة وثيقة بتلك المرأة البارزة، شديدة الجمال والذكاء، المعروفة باسم «أسباسيا الملطية» Aspasia of Miletus؟ أليس من المعقول أن نفترض أن أفكارها حول الحب والتعالي قد ألهمته صياغة العناصر الرئيسة لفكره (كما نقلها «أفلاطون»)؟

ديوتيما المانتينية

بدايةً تُظهر لوحة تاريخية للرسام الفرنسي «نيكولاس أندريه مونسياو» Nicolas Andre Monsiau (1754 – 1837) «سقراط» جالسًا على طاولة أمام الفاتنة «أسباسيا» التي ترتدي ملابسها الأنيقة وتتحدث إليه مُلوحةً بذراعيها، بينما يرمقها الجندي الشاب الوسيم «أليكيبيادس» Alcibiades بعينيه. وتعكس اللوحة صورة «سقراط» المُعتادة تاريخيًا: رجلٌ فقير وقبيح، عُرف منذ منتصف عمره بخلعه للحذاء وارتدائه ملابس ممزقة!

كان كُتَّاب السيرة الذاتية لسقراط: «أفلاطون» Plato و«زينوفون» Xenophon، يقدمونه فقط كرجلٍ حكيمٍ طاعنٍ في السن، لكن سقراط كان في يومٍ من الأيام شابًا، وكان معاصرًا لأسباسيا بشكل مباشر.

ومن الصور الباقية للفيلسوف، والمعلومات العرضية التي قدَّمها كُتَّاب سيرته الذاتية، والنصوص المكتوبة القديمة التي تم التغاضي عنها أو إساءة تفسيرها بشكل عام، تظهر صورة مختلفة لسقراط: صورة شابٍ فتيّ السن، تلقى تعليمًا جيدًا، نشأ كجندي لا يقل شجاعة عن «أليكيبيادس»، ومُفعم بالعاطفة والقوة وصفاء الذهن!

اشتهر «سقراط» بقوله: «الشيء الوحيد الذي أعرفه هو أنني لا أعرف»، لكن «أفلاطون»، في «الندوة» Symposium، نقل عنه قوله إنه تعلَّم «حقيقة الحب» من امرأة ذكية، أُطلق عليها اسم «ديوتيما المانتينية» Diotima of Mantinea، وهو اسم مستعار لامرأة يونانية، ذُكر أنها عاشت سنة 440 قبل الميلاد تقريبًا، وكانت أفكارها وعقيدة «إيروس» Eros التي ذكرها «سقراط» في الحوار هي أصل مفهوم «الحب الأفلاطوني» Platonic love. وفي الندوة يشرح «سقراط» مذهبها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لكن كافة مؤرخي الفلسفة الغربية تقريبًا شكَّكوا في الوجود الفعلي لامرأة تحمل اسم «ديوتيما». صحيح أنها وُصفت في المحاورة ككاهنةٍ أو عرَّافة، لكن المُعتقد الغالب أنها كانت في أحسن الأحوال شخصية مجازية تُعبر عن بصيرة أو قدرة روحانية ألهمت الفيلسوف أسرار الحب!

ومع ذلك، يترك «أفلاطون» بعض القرائن الدقيقة بشكلٍ مثيرٍ للفضول حول هوية «ديوتيما» التي ظلت غامضة لقرونٍ طويلة، لعل أبرزها ما ذكره صراحةً في محاورة «مينيكسينوس» Menexenus من أنه قد تلقى دروس البلاغة على أيدي «أسباسيا».

كيف نشأ وتعلم وأحب وتفاعل مع المجتمع الأثيني؟

لقد عُرف «سقراط» كفيلسوف في الثلاثين من عُمره، لكن ماذا عن الفترة التي كان فيها شابًا في سن المراهقة والعشرينات من عُمره؟ إن هذه الفترة المُبكرة من حياته هي الموضع الذي نحتاج إلى البحث فيه عن نقطة تحوله الكُبرى لكي يغدو فيلسوفًا، وهي الفترة التي عاصر فيها «أسباسيا» وأُعجب بها، ورُبما وقع في غرامها. وبعبارة أخرى، نحن في حاجة لأن نعرف كيف نشأ وتعلم وأحب وتفاعل مع المجتمع الأثيني؟

تُشير المصادر التاريخية إلى أنه في طفولته، كان تلميذًا لمُعلم الموسيقى والرقص المعروف آنذاك «لامبروس» Lampros، وقد كان هذا الأخير أيضًا أستاذًا لكاتب التراجيديا الإغريقية المشهور «سوفوكليس» Sophocles (الذي كان أكبر من سقراط بخمسة وعشرين عامًا)

. وعندما أصبح مراهقًا درس أفكار الفلاسفة الأوائل (ما قبل السقراط) مثل «أناكساغوراس» Anaxagoras، الذي كان مقربًا من السياسي اليوناني الكبير «بريكليس» Perikles، ثم أصبح التلميذ الحميم لمفكرٍ آخر لا يقل أهمية هو «أرخيلاوس» Archelaus (تلميذ «أناكساغوراس»).

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كل هذا يُعد دليلًا على أن «سقراط» قد نشأ بين أبناء الطبقة العليا في المجتمع، وفي صُحبة شباب تدربوا على الشعر والموسيقى والخطابة والفلسفة والرقص والمصارعة والقتال، ويُقدرون الإنجازات الفكرية والموسيقية، بالإضافة إلى البراعة الجسدية والشجاعة في ساحة المعركة.

ولم يكن «سقراط» يقل عنهم رغبةً في المنافسة والتفوق في تلك المجالات، ما يُعد تأسيسًا جيدًا له للولوج في حياة العقل، والزهد في النجاح المادي الزائف، وإعادة توجيه التفكير الفلسفي للأجيال القادمة.

اختار الفقر من أجل متابعة دعوته

ربما تُفاجئ هذه الصورة أولئك الذين كانوا وما زالوا يتخيلون أن «سقراط» كان فقيرًا مُعدمًا، ومن بيئة اجتماعية متدنية. حقًا لقد تغير مظهره في وقتٍ لاحق من حياته، وكان يتجول في الأسواق حافي القدمين، مرتديًا ثيابًا ممزقة، لكنه أُجبر على القول (في نسخة «أفلاطون» من دفاعه المشهور عن نفسه وقت محاكمته) أنه اختار الفقر من أجل متابعة دعوته!

ولعل أقدم وصف مرئي له كان في مسرحية «السُحب» لأريستوفانيس Aristophanes’ play Clouds (423 قبل الميلاد) عندما كان عمره ستة وأربعين عامًا، ولم يُصوَّر فيها على أنه قبيح أو بائس، وإنما كمفكر هزيل، طويل الشعر، يُروج لأفكارٍ تهدف إلى إفساد الشباب والاستخفاف بالعقيدة الدينية. وباعترافه هو شخصيًا، لم يزد وزنه إلا بعد انتهاء فترة مشاركته في الحرب في الخمسينيات من عمره!

أضف إلى ذلك أن تصوير «أفلاطون» و«زينوفون» له كرجلٍ يتمتع بمستوى عالٍ من التعليم والمعرفة والسلطة الفكرية، إنما يفرض استنتاجًا مفاده أنه تلقى بالفعل تعليمًا جيدًا في فترة طفولته وشبابه، ولم يكن ذلك الطفل أو الشاب المُهمل أو غير المتعلم لأب مُعدم.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وحيث أنه كان مقاتلًا منتظمًا في معارك أثينا حتى أواخر الأربعينيات من عمره، فمن المؤكد أنه كان يمتلك أيضًا مؤهلات الثروة التي تتيح له ارتداء بذلة باهظة الثمن (بذلة الدروع)، شأنه شأن جنود المشاة المدججين بالسلاح في ذلك الوقت!

كان والد سقراط «سوفرونيسكوس» Sophroniscus   بَنَّاءً، لكن هذا لا يعني أنه كان بالضرورة فقيرًا، بل قد يعني حرفيًا أنه كان ثريًا. ربما كان مثلًا رجل أعمال يدير شركة للمقاولات (بمصطلحاتنا الحالية) يعمل بها كثرةً من العبيد، في وقت كانت فيه أثينا تنفذ عددًا كبيرًا من النُصب ومشروعات البناء بعد الحروب الفارسية.

كذلك كانت لسوفرونيسكوس صلاتٌ رفيعة المستوى في قريته الأصلية، حيث كان من المعروف أن أقرب أصدقائه هناك هو «ليسيماخوس» Lysimachus (أحد القادة الخلفاء للإسكندر الأكبر، ابن بطل الحرب «أريستيدس» Aristides)، وهو رجلٌ كان يتمتع بمكانةٍ نخبوية لا تشوبها شائبة.

وقد تزوج «سقراط» في البداية من «ميرتو» Myrto ابنة رجل الدولة «ليسيماخوس» Lysimachus (ويُقال أنها حفيدة «أريستيدس»)، وأنجب منها ولديه الكبيرين، وذلك قبل وقت طويل من لقاء زوجته اللاحقة «زانثيبي» Xanthippe (المشهورة بالفصاحة) في الخمسينيات من عمره.

اقرأ أيضاً:

سقراط وتهمة إهانة الآلهة

فيليس تمتطي ظهر أرسطو 

آدم وسقراط والحديث عن الرغبة واليقظة

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

 

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية

مقالات ذات صلة