العقل والعِلّية .. الجزء الرابع
العلة الأولى-1- من أين جاءت العلة الأولى؟!
تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة (العقل والعلية ج3 إنكار العلية) عن إنكار بعض فلاسفة الغرب للعلية، وتعرفنا الردَ على ذلك الإنكار، ولأن إنكار العلية سوف يفضي –في نهاية المطاف– إلى إنكار العلة الأولى، أي إنكار الإله.
وفي هذه الدردشة نتحدث عن العلة الأولى. ونبدأ بالإجابة عن التساؤلات الآتية:
- من أين جاءت العلة الأولى؟
- ولماذا يجب أن نقف عند علة أولى هي التي أوجدت الكون؟
- وإذا كانت القاعدةُ تقرر: أن لكل معلول علة، فلماذا لا تطَرِّد القاعدةُ وتستمر إلى غير نهاية؟
فيلسوفان كبيران من عمالقة الغرب تركا أثرًا هائلًا على فلسفة القرن العشرين، طرحا التساؤلاتِ، وأجابا عنها إجاباتٍ لا عقليةً ولا فلسفية.
إلحاد راسل: من خلق الإله؟!
قرأ الفيلسوفُ الإنجليزي برتراند راسل (1872- 1970) سيرةَ حياةِ الفيلسوف الإنجليزي جون ستيورارت ميل (1806-1873)، وكان ما قرأه راسل في سيرة ميل هو ما دفعه إلى إنكار العلية ومن ثم إنكار العلة الأولى أو الإله.
كان راسل يعتقد في شبابه في دليل العلة الأولى، هذا الدليل الذي استعمله توماس الأكويني (1225-1274) وفلاسفة آخرون، هو أنه يجب أن يكون لكل شيء سبب، وأن سبب كل شيء، أي السبب الأول في سلسلة الأسباب (العلل) والنتائج (المعلولات) هو بالتأكيد الإله (العلة الأولى).
لكن جون ستيوارت ميل طرح هذا السؤال: “من خلق الإله؟”، فكان ذلك سبب إلحاد راسل فأعلن: “ليس صحيح أن لكل شيء سببًا، حتى الإله له سبب، ومن ثم فليس ثم إله!”.
إلحاد سارتر: لماذا نستثني العلة الأولى؟!
أما الفيلسوف الفرنسي الوجودي جان بول سارتر (1905-1980) فقد قال باطّراد قانون العلية، وتساءل: “من أين جاء استثناء العلة الأولى من قانون العلية؟ أي أنه لا بد أن يكون للإله خالقٌ أيضًا!”.
لماذا لا يكون الكون هو العلة الأولى؟!
لقد رأى سارتر أن قاعدة قانون العلية مطردة، وتنطبق على كل شيء، ومن ثم فلا حاجة لنا إلى افتراض وجود علة أولى. ولما لم يجد سارتر جوابًا قام بنفي العلة الأولى! وقال: “إذا كان هنالك من يقبل الاستثناء والخروج عن القاعدة فلماذا لا يكون الكون؟”، أي –حسب مقصد سارتر– لماذا لا يكون الكون –وليس الإله– هو الذي وُجِدَ بغير علة؟
اقرأ أيضاً:
الإله بين الرؤية الجبرية والتفويض الكلي للإنسان
العلة الأولى خارجة على قانون العلية: الموجود الحادث فحسب هو الذي يخضع للعلية
ما لم يدركه راسل وسارتر، وغيرهما من الفلاسفة، أن العلة الأولى تخرج عن قانون السببية. وهذا هو مدارُ قاعدةِ العلية: إنها تتحدث عن الموجود الحادث الممكن فحسب وليس كل موجود. الموجود الحادث فحسب هو الذي يخضع للعلية.
لقد ظن هؤلاء الفلاسفة أن موضوع أصل العلية (لكل معلول علة) هو مطلق الوجود، غافلين عن أن موضوع أصل العلية “الموجود المعلول”، وليس مطلق الوجود. ولما كان الله تعالى غيرَ معلولٍ فهو إذًا ليس بحاجة إلى علة أو خالق.
إذن الجواب عن التساؤل حول استثناء العلة الأولى من قانون العلية هو: أن العلة الأولى لا تحتاج إلى علة لأنها مرتفعة على الاحتياج إلى الوجود. الحادث هو وحده المحتاج إلى علة توجده. إذن لا يوجد استثناء في قاعدة العلية؛ إنها مطردة ولكن في كل موجود حادث.
وفي الحقيقة لا يوجد استثناء في قاعدة العلية (لكل معلول علة)، وهي مطردة كما قال سارتر، كل ما في الأمر أنها مطردةٌ في كل موجود حادث. والعلة الأولى موجودةٌ بذاتها، والكون ليس موجودًا بذاته، بل هو معلولٌ، فكيف يكون علةً أولى؟!
الخلاصة:
إذن لا يوجد استثناء للقاعدة، إنما توجد مغالطةٌ فكريةٌ قام بها راسل وسارتر حين أرادا أن يطبقا القاعدة في غير مجالها. أعني حين أرادا أن يُدخلا العلةَ الأولى في إطار الموجودات الحادثة!
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على قصور المفاهيم الفلسفية لدى كثير من فلاسفة الغرب المعاصرين.
في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل الحديث عن العلة الأولى، وبرهان عدم تسلسل العلل لا إلى نهاية.
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا