مقالاتمنطق ومعرفة - مقالات

العقل والعِلّية .. الجزء الثالث

إنكار العلية

تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة (العقل والعلية ج 2 – أقسام العلة) عن أقسام العلل، وعرفنا كيف نفرق بين العلة التامة والعلة الناقصة،

وبين العلة الحقيقية والعلة المُعِدَّة حتى نكون مستعدين قبل الدخول في النقاشات الفكرية والفلسفية والمنطقية على نحو من هدي المبادئ والأسس العقلية القوية والراسخة.

وفي هذه الدردشة نتحدث عن موقف بعض مفكري الغرب من الذين أنكروا قانون أو مبدأ العلية. وكيف رد الفلاسفة العقليون المسلمون على اعتراضاتهم وإنكارهم لذلك المبدأ الذي يتأسس عليه نظامُ العالم وبنيةُ الكون.

إنما العلية تَقارنٌ وتعاقب!

لقد تخيل بعضُ الفلاسفة الغربيين أن مفهوم العلة والمعلول يتم الحصول عليه من ملاحظة التقارن أو التعاقب بين ظاهرتين بشكل منتظم.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فمثلًا عندما نرى النار والحرارة يتحققان دائمًا مع بعضهما أو إحداهما بعد الأخرى فإننا ننتزع منهما مفهوم العلة والمعلول. وفي الحقيقة فإن محتوى هذين المفهومين ليس شيئًا سوى التعاصر أو التعاقب المنظم لظاهرتين.

وعلى ذلك يرى الفيلسوف الإسكتلندي ديفيد هيوم (1711-1776م) أنَّ العلة والمعلول عملية ترتبط بتداعي المعاني. وليست العلية سوى العادة والألفة الذهنية، فنكتفي بالتسمية في مورد العلة والمعلول، دون إثبات علاقة حقيقية، بل كلما وجدنا تتابعًا بين موجودين نسمى السابق علة واللاحق معلولًا.

العلية ليست تقارنًا أو تعاقبًا

1280px DavidHume 1024x682 - العقل والعِلّية .. الجزء الثالثلو صدقنا هيوم وغيره ممن ينكر العلية في الكون وممن ينكر هذا القانون الذي يُبنى عليه نظامُ العالم كما ذكرنا في دردشة سابقة (العقل والعلية ج 1- العلة والمعلول)، في هذه الحالة نكون من منكري قانون العلية في الواقع، ولا نعطي لهذا القانون قيمة أكبر من التسمية، وحينئذ سنشطب على جميع أفكارنا وعلومنا، ونحكم عليها بالبطلان!

كما أن هذا التخيل غير صحيح من وجهة نظر الفلسفة العقلية الإسلامية، لأنه في كثير من الموارد تتحقق ظاهرتان معًا، أو كمتعاقبتين بصورة منظمة، ولا يمكن اعتبار أي منهما علة للأخرى.

كما في النور والحرارة فهما ينبعثان معًا وبشكل دائم من المصباح الكهربائي، والليل والنهار يوجدان متعاقبين دائمًا، إلا أن أيًا منهما ليس علةً للآخر.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

بل إن نفي العلية في حد ذاته لهو دليلٌ على إثباتها! لأنك حين تريد نفي العلية فإنك تستند حتمًا إلى أسباب: أي تستند إلى علل لنفي العلية، وهذا بنفسه تطبيق حرفي لهذ المبدأ الراسخ!

وبناء على هذا، فإن من يعتبر العلية بمعنى تقارن الظواهر أو تعاقبها، وكذا من لهم ميول وضعية أو مادية، لا يستطيع أن يثبت أي قانون كلي وقطعي. والحاصل إن مبدأ العلية، بمعنى أن “لكل معلول علة”، إنما هو أصل عقلي وميتافيزيقي.

رؤية المعلول كافٍ لإدراك العلة

لكننا لا نرى العلل!

وقد يقول قائل: لكننا لا نرى العلل، سيما العلة الأولى، علة العلل، والسبب الأعظم/ الله تعالى. فهل يجوز أن نعتقد بوجود شيء لم نره ولا نراه؟!

إن عدم رؤية العلة لا يقدح في كوننا نرى المعلول. وبالعقل ندرك أن لهذا المعلول علة أوجدته. فرؤيتنا للمعلول كافٍ لإثبات وجود العلة. هل رأينا العمال الذين بنوا الأهرامات؟ ولكن وجود الأهرامات يدل على أن عمالًا بنوها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هل ننكر مصدر الدُخان الذي نراه وإن لم نره بأم أعيننا (وكما يقول المثل الذي تمليه الفطرة السليمة: لا يوجد دخان بدون نار). وقد قيل قديمًا: “إن الأثر يدل على المؤثر”. أي أن لكل حادث موجدًا أوجده.

وهذا يقودنا –مباشرة– إلى الحديث عن العلة الأولى؟ من أين جاءت؟ وهل العلة الأولى خاضعة لقانون العلية، أم أن العلة الأولى خارجة على قانون العلية؟

هذا هو موضوع دردشتنا القادمة، بإذن الله.

اقرأ أيضاً:

الجزء الأول من المقال 

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الجزء الثاني من المقال

الإلحاد في ميزان العقل

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د شرف الدين عبد الحميد

أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب جامعة سوهاج

مقالات ذات صلة