مقالاتقضايا وجودية - مقالات

مجبر أم مختار .. الإله بين الرؤية الجبرية والتفويض الكلي للإنسان

هل تساءلت يوما عن غاية الإله من الخلق؟!
فى أحد الفيديوهات التي جذبت انتباهي مؤخرا خرجت علينا إحدى الفنانات لترد بغضب على منتقدي بعض قراراتها وأفعالها من المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي، فقالت أنه لا أحد منا مخيرًا في مصيره، وأنها كبرت لتجد نفسها هكذا ولم تختر كما الجميع ما تفعله، بل هى مصائر كتبت على الجميع، وقُدرت عليهم جميعًا ولم يكن أحد مخيرًا في حياته على حد قولها!
فبحسب هذه الأقوال، ومن يعتنقها أو يكررها في ألفاظه وحياته، فهو يدعي بأن الإنسان مجبور على أفعاله، وهذا الاعتقاد بأن الإنسان مجبور فى أفعاله كلها، وليس مخيرًا في أي فعل ينتج منه، وأن أفعال الإنسان هي في الحقيقة أفعال الله، فتكون النتيجة أن أفعال الإنسان لا يمكن لومه عليها.

والمعتقدون بالجبر على أصناف، فمنهم من يعتقد بالجبرية بشكل تام، وهم من يعتقدون بانتفاء الفعل والقدرة عن العبد أصلا، والصنف الآخر يؤمن بالجبرية الأقل تطرفا وهي التي تقول بأن للعبد قدرة لكنها غير مؤثرة.

وتنطلق تلك النظرية في جبرية الإنسان من مقولة (لا مؤثر في الوجود إلا الله) وأن الله هو خالق كل شيء، وأن أعمال العباد أيضا مخلوقة، ورغم أن تلك المقولات صحيحة في نفسها إلا أنهم أخذوها على محمل آخر غير الذي يقصد بها!

ولهذه النظرية نتائج يرفضها العقل حتما لأنها:
أولا:
تنفي صفة العدل عن الإله وتنسب الظلم وعدم الرحمة إليه؛ لأن الإله الذي يجبر عباده على ارتكاب الذنوب، ثم يعاقبهم عليها، هو ظالم ولا يستحق أن يتصف بصفة الألوهية.
ثانيا:
كما تنفي قانون السببية والعلة والمعلول؛ فبحسب رؤيتهم لا توجد سوى علة واحدة تامة ولا وجود لأي علل أخرى، فلا تأثير يحدث فى الوجود إلا للإله وهو مصدر العلة التامة الوحيدة في الوجود.
ثالثا:
نفي الاختيار والقدرة عليه، فالإنسان مجبور على أفعاله ولا يدرى ما يفعل، أو حتى يدري بما يفعل ولكنه عاجز عن منع نفسه من ارتكاب الفعل مهما كان مسيئا أو مضرا له، وهذا يدعو إلى عدم لوم أحد على أفعاله مهما كانت مؤذية للغير أو لنفسه.
رابعا:
ينفي الحكمة عن الإله حيث لا معنى لبعثة الرسل أو إنزال الكتب السماوية أو حتى خلق الجنة والنار، وكأن الخلق والأديان وبعثة الأنبياء كلها أمور عبثية خلقها الإله عبثا بلا هدف ولا معنى.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وعلى الطرف الآخر المناقض للجبرية، هناك من يعتقدون بالتفويض الكلي للإنسان في أفعاله، وأن الله خلق الإنسان وفوض إليه أمره،
وأن الموجود أو المخلوق لا يحتاج إلى الخالق أو واجب الوجود إلا فى الحدوث والإيجاد فقط دون البقاء، وأن الخالق بعد أن يخلق الإنسان يعطيه الحرية المطلقة والاستقلال التام في الاختيار والإرادة.

ويستدلون على ذلك بأن بعض أفعال الإنسان ظالمة وجائرة، ولو أن الله كان هو العلة التامة لتلك الأفعال لاتَّصف بالظلم، وهو كواجب الوجود الموصوف والمستحق للكمال المطلق، فلا يصح أن يتصف بنقص أو عيب أو أن يكون ظالما، وهو منزّه عن ارتكاب تلك الأفعال الناقصة وعن الظلم والجور على مخلوقاته.

كما أنهم يعتبرون الخلق يحتاج لعلة في حدوثه فقط، ولا يحتاج إليها بعد إيجاده، كما البناء الذي بعد اكتماله لا يحتاج إلى العمال، فلو ماتوا بعد اكتماله فلا يؤثرون في وجود البناء

ولهذه النظرية (التفويض المطلق ) أيضا نتائج يرفضها العقل للأسباب التالية:
أولا:
أن الإنسان مستقل عن الإله، ولا وجود للإرادة الإلهية في أفعاله أبدا، وهو متروك لهواه بلا قيد ولا هداية.
ثانيا:
أن الإنسان مخلوق مستقل بذاته ليس محتاجًا لأحد، مما يدعم الاعتقاد بالشرك لأنه يقول بمخلوقين مستقلين قادرين أيضا ليس للإله سيطرة عليهم.
ثالثا:
تصف الإله بضعف ووهن القدرة والسلطان، ومحدوديتهم على مخلوقاته.
رابعا:
تتهم الإله بأنه أهمل عباده في ملكه، وتركهم بلا رعاية أو تدخل وإرشاد.

والخلاصة في الأمر كله أن العقل والعاقل يحكم بأن الأمر وسط بين الجبر والتفويض، فلا هو جبر مطلق ولا هو تفويض واستقلال مطلق، فهي ليست ثنائية إما أو، بل هو أمر بين هذا وذاك، فإن سير الإنسان في حياته لا يشبه مثلا سير الكواكب والمجرات المسخرة في كل حركاتها، ولم يفوض الله الإنسان في كل ما رزقه ليفعل ما يشاء ويسير دون إرشاد وهداية إلى ما ينفعه وتعريفه بما يضره عن طريق إرسال الأنبياء والكتب السماوية، فإذا اختار الطريق السوي فقد استحق وعد الإله بخير الجزاء، وإذا رفض واختار طريق الضلال والخطأ فقد استحق العقاب دون أن يجبرهم على اختيار.
يقول محمد عبده (فمنهم القائل بسلطة العبد على جميع أفعاله واستقلاله المطلق، وهو غرور ظاهر ومنهم من قال بالجبر وصرح به، وهو هدم للشريعة ومحو للتكاليف، وإبطال لحكم العقل)
ولو افترضنا أن قضاء وقدر الإله حتمي والإنسان مجبر عليه، للزم أيضا بطلان الثواب والعقاب، والأمر والنهي، والزجر الإلهي،
ولسقط الهدف والمعنى من الوعيد، أو الوعد بالخيرات، ولم يكن على المسيء وفاعل القبح والظلم والشر لوم، ولم يكن للمحسنين والصالحين جزاء ومدح، ولكان المحسن أولى باللوم، والمذنب أولى بالشكر والجزاء الحسن.
فقد كلف الله الإنسان بالاختيار ونهاه بالتحذير ولم يعصه أحد لضعفه عن منع العاصي والمعصية، ولم يُطع بجبر الناس على الطاعة ولم يكن ليخلق الكون عبثا، فمثلا لو رأيت أحدهم يفعل شيئا قبيحا فنهيته عنه فلم يستجب لك، وفعل ما أراد من عمل قبيح، فتركته فلست أنت من أمرته بالفعل القبيح، وهو الذي اختار لا أنت، فما استطعنا أن نلوم عليه الإنسان نفسه عقلا، فهو منه وقراره يعود إليه، وهو مخير في فعله، فمثلا لا تستطيع أن تقول للإنسان لم أنت قصير؟ ولِم أنت أبيض أو أسود اللون؟ فهو ليس مخيرًا في هذا، وليس مسئولا عنه ولكنك تستطيع أن تقول له لم كذبت؟ ولم خنت؟ ولم سرقت؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

اقرأ أيضا :

الصراعات الداخلية…ولادة عسيرة

اليأس خدعة و الأمل حياة جديدة نعيشها.. ولكن كيف؟

من “احلم معايا” لـ”داري يا قلبي”، لماذا لم يحبنا العالم؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

رحيل محمد

عضوة بفريق بالعقل نبدأ بالقاهرة

مقالات ذات صلة