فن وأدب - مقالاتمقالات

الغزل العذري وتصحيح الصورة النمطية للعرب .. الجزء الثالث

أتى قيس بن الملوح، ليشق دربًا أشد في حب عذري، صار أمثولة للعرب أجمعين على مدار أكثر من ألف عام، وسيظل قائمًا في قابل الأيام، لأنه كان عاشقًا أسطوريًا، أفضت به التباريح حد الجنون، وقد تجلى جوهر هذه الأمثولة في بيت شعر صار أمنية لكل عاشق هجره معشوقه، لأي من الأسباب التي تتشابه رغم اختلاف الأزمنة والأمكنة:

وَقَد يَجمَعُ اللَهُ الشَتيتَينِ بَعدَما      يَظُنّانِ كُلَّ الظَنِّ أَن لا تَلاقِيا

قيس بن الملوح إن كان قد أتى على ذكر جسد ليلى في بعض قصائده، فإنه لم يتعامل معه أنه موضوع للذة، إنما مع تجلياته الروحية ودلالاته، فهو يقول:

تعـلـقـت ليـلى وهي ذات ذؤابة    ولم يبد للأتراب من ثديها حجم

اضغط على الاعلان لو أعجبك

صغيرين نرعى إبلهم يا ليت أننا     إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم

فهو هنا يتحدث عن جسدها في معرض بناء دلالة على أنه قد تعلق بها صغيرة، وهو إن تغنى بجمالها فإنه لا يبقيه فوق الحس، ويدفعه دفعًا إلى مسار الروح:

بَيـضـاءُ باكَرَها النَعـيـمُ كَأَنَّها          قَمَـرٌ تَوَسَّـطَ جُنحَ لَيـلٍ أَسوَدِ

مَوسـومَةٌ بِالحُسـنِ ذاتُ حَـواسِدٍ  إِنَّ الحِسانَ مَظِنَّـةٌ لِلحُسَّـدِ

فما إن حيل بينه وبين وصال المحبوبة حتى راح يهذي، ويرفعها إلى مكان عال، فتكون كل شيء، حياته وعمره ونهاره وليله وقبلته وسبب بلائه المحبب إلى نفسه، وهي من تطارده في صحوه ومنامه، ويبحث عنها في كل أحد، وكل شيء حوله، حتى لو كان مجرد اسمها الذي تحمله فتاة غيرها، وهنا يقول:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أَعُـدُّ اللَيـالي لَيلَةً بَعـدَ لَيلَةٍ          وَقَد عِشتُ دَهـرًا لا أَعُـدُّ اللَيالِيـا

وَأَخرُجُ مِن بَينِ البُيوتِ لَعَلَّني        أُحَدِّثُ عَنكِ النَفـسَ بِاللَيـلِ خالِيا

أَراني إِذا صَلَّيتُ يَمَّمتُ نَحوَها       بِوَجهي وَإِن كانَ المُصَلّى وَرائِيا

وَما بِيَ إِشراكٌ وَلَكِنَّ حُبَّهـا           وَعُظمَ الجوى أَعيا الطَبيبَ المُداوِيا

أُحبُّ مِنَ الأَسماءِ ما وافَقَ اسمها          أَوَ اشبَهَهُ أَو كانَ مِنهُ مُدانِيا

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ولما يستبد به الشوق، يهيم على وجهه في الصحراء شريدًا، يخاطب الطير في ألم:

ألا يا حمامـات العـراق أعـنني       على شجني، وابكين مثل بكائيا

وبلغت الصورة الروحية مداها في قصة غرام قيس حين كان ينشد في وجه كل من كان يمضي خلفه في تشرده محاولًا إقناعه بالعودة إلى أهله:

يَميلُ بِيَ الهَـوَى فِي أَرضِ لَيلَـى  فَأَشكوهـا غَـرامِـي وَاِلتِهابِـي

وَأُمطِرُ فِي التُّرابِ سَحابَ جَفنِـي  وَقَلبِـي فِـي هُمـومٍ وَاكتِئـابِ

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وَأَشكو لِلدِيـارِ عَظيـمَ وَجـدي        وَدَمعي فِـي انهِمـالٍ وَانسِيـابِ

أُكَلِّمُ صـورَةً فِي التُّـربِ مِنهـا         كَأَنَّ التُّـربَ مُستَمِـعٌ خِـطـابِـي

كَأَنِّـي عِـندَهـا أَشـكُـو إِلَيـهـا        مُصابِي وَالحَديـثُ إِلَـى التُّـرابِ

فَلا شَخصٌ يَـرُدُّ جَـوابَ قَولِـي        وَلا العَتَّابُ يَرجِـعُ فِـي جَوابِـي

فَأَرجِـعُ خائِبـًا وَالدَّمـعُ مِـنِّـي         هَـتونٌ مِثـلَ تِسـكـابِ السَّحـابِ

عَلى أَنِّي بِهـا المَجنـونُ حَقّـًا        وَقَـلبِي مِن هَـواهـا فِـي عَـذابِ

أما جميل بن معمر، المسنودة شهرته إلى اسم حبيبته فسمي “جميل بثينة”، فهو من قبيلة تسمى “عذرة”، من بطون قريش، وسميت بهذا لأنها اشتهرت بالحب العذري، وهو يضرب مثلًا مختلفًا في العشق، فالحبيب هذه المرة على وصال بمحبوبته، يقابلها خلسة، ويبثها لاعج أشواقه، فيتحاوران ويتناجيان، إذ يقول:

إذا قـلـتُ: ما بي يا بـثينةُ قاتِـلي           من الحبّ، قالت: ثابتٌ، ويزيدُ

وإن قلتُ: رديّ بعضَ عقلي أعشْ          بهِ تولّتْ وقالتْ: ذاكَ منكَ بعيدُ

فلا أنـا مردودٌ بمـا جـئـتُ طالبًا               ولا حـبـها فـيـما يـبيدُ يـبيدُ

جزتكَ الجواري، يا بثينَ، سلامةً            إذا ما خليلٌ بانَ وهـو حميد

وقـلتُ لها، بيني وبينكِ، فاعـلمي         مـن الله مـيثـاقٌ له وعُـهود

وقـد كان حُبّـيـكُمْ طـريفـًا وتـالـدًا           وما الحـبُّ إلاّ طـارفٌ وتـليدُ

وإنّ عَرُوضَ الوصلِ بيني وبينها              وإنْ سَهّلَتْـهُ بالمـنى لكؤود

وأفنيتُ عُمري بانتظاري وَعـدها             وأبليتُ فيها الدهرَ وهـو جديد

لما تبدل الوصل فراقًا، ولم يعد بمكنته لقائها ومناجاتها وجهًا لوجه، بعد زواجها بغيره، أضناه الشوق إليها، وهو شوق من حرقة الروح، لا من جوع الجسد، بل إن الأخير في هذا ليس سوى خادم، يبلى وينحل من فرط الهوى. وهنا يقول:

أيا ريح الشمال أما تريـني            أهيم وأنني بادي النحول

هبي لي نسمة من ريح بثـنٍ       ومني بالهبوب على جميل

وقولي: يا بثينة حسب نفسي     قليلك، أو أقـل من القليـل

وفي النزع الأخير من حياته، لم ينس جميل محبوبته، وطلب ممن يحيطون به وهو يحتضر أن يبلغوها أن اسمها كان آخر ما هتف به، وراح ينشد:

ألا أيّها النـوّام وَيْحَـكُمُ هُبّوا           أُسائِلُكُمْ هل يَقْتُلُ الرّجلَ الحُبُّ؟

فقالوا: نعم حتّى يَسُلَّ عظامه      ويتركه حيـران ليس له لُـبُّ

وبشكل نسبي أو متفاوت في التقدير، وإدراكًا لتناقضه، تم النظر إلى حال كثير بن عبد الرحمن، الذي اشتهر بكثير عزة، بعد أن شغف بها حبًا، فقد قيل له: هل نلت من عزة شيئًا طول مدتك؟ فقال: لا والله، إنما كنت إذا اشتد بي الأمر أخذت يدها فإذا وضعتها على جبيني وجدت لذلك راحة. ويعبر عن هذا الحب، الذي صار أمثولة أيضًا، بقوله:

وَراجَعتُ نَفسي وَاعتَرَتني صَبابَةٌ  وَفاضَت دُموعي عَبرَةً خَشيَةَ النَوى

وَقُلتُ وَكَيفَ المُنتَهى دُونَ خُلَّةٍ      وهِيَ العَيشُ في الدُنيا وَهِيَ مُنتَهَى المُنى

إنها حالات ظاهرة من الكبد والمشقة وعذاب الروح، التي تبين كيف أن الحب عند هؤلاء محال إلى وجع النفس وآلامها، كأن يقول عروة بن حزام:

على كبدي من حُبّ عفراء قرْحةٌ  وعينانِ من وجدي بها تكفانِ

ويقول أبو نواس:

إذا ما الشَّوقُ أقـلَقـَني إِلَيهِ          ولَم أَطمَع بِوَصلٍ من لَدَيهِ

خَطَطّتُ مِثالَهُ في بَطنِ كَفّي       وقُلتُ لِمُقلَتي فِيضِي عَليه

ووصلت به المعاناة في عشق جنان أن قال:

أَموتُ وَلا تَدري وَأَنتَ قَتَلتَني         فَلا أَنا أُبديها وَلا أَنتَ تَعلَمُ

لِساني وَقَلبي يَكتُمانِ هَواكُمُ       وَلَكِنَّ دَمعي بِالهَوى يَتَكَلَّمُ

وَلَو لَم يَبُح دَمعي بِمَكنونِ حُبُّكُم    تَكَلَّمَ جِسمٌ بِالنُحولِ يُتَرجِمُ

ويقول محمد بختيار بن عبد الله:

دَعْـنِي أُكابِـدُ لَوْعَـتي وأُعَاني       أَيْنَ الطَّليقُ مِنَ الأسـيرِ العـاني

ويصف العباس بن الأحنف الحب العذري كله في أبيات بديعة يقول فيها:

الحب أول مـا يـكـون لجـاجةٌ         تأتي بـه وتسـوقـه الأقـدارُ

حتى إذا سلك الفتى لجج الهوى  جاءت أمور لا تطـاق كبـار

نزف البكاء دموع عينك فاستعر      عينـًا لغيـرك دمعـها مـدرار

من ذا يعيـرك عينـه تبكي بهـا       أرأيـت عينـًا للبـكاء تعار

أما ماني الموسوس، فيصف حال المحب نفسه بأنه شقي معذب خائف من لوعة الفراق أو الاشتياق، ولا يشفي غليله لقاء، وهنا يقول:

وما في الأرض أشقى من محبٍ  وإن وجد الهوى عذب المذاق

تراه باكيًا في كـل حـين              مخافة فـرقة أو لاشـتيـاق

فيبكي إن نأوا شوقـًا إليـهم         ويبكي إن دنـوا خوف الفـراق

فـتسـخن عينـه عنـد التنـائـي      وتسخـن عينـه عـنـد التلاقي

نكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى.

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

القواعد الذهبية في سياسة عنترة بن شداد

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري

مقالات ذات صلة