فن وأدب - مقالاتمقالات

الغزل العذري وتصحيح الصورة النمطية للعرب .. الجزء الثاني

جاء الإسلام ليفرض قيمه التي تنفر من أي غزل صريح، لا سيما ما ينطوي على وصف مفاتن الجسد، أو العلاقات الجنسية، فلم يجد الشعراء متنفسًا لعواطفهم إلا في الغزل العفيف، لكنه توجه خرج عليه شعراء مالوا إلى “المجون” فيما بعد، وعادوا إلى الشعر الحسي مع تطور الحياة وتعقدها في الأمصار الإسلامية.

هذه الأسباب التي صنعت العذرية لم يلتفت إليها الغربيون كثيرًا، ولعل المستشرق الفرنسي أندريه ميكال قد اعترف بهذا في تقديمه لكتاب عالم الاجتماع التونسي الطاهر لبيب “سوسيولوجيا الغزل العربي”، قائلًا: “بفعل المؤلف عرفنا أخيرًا، لماذا شعر البعض بالحاجة، تحت سماء الجزيرة العربية، إلى قول الحب، كما لم يقله أحد قبلهم، ولماذا عشقوه. لقد كان عليهم أن يمدوا هذا الشعور الإنساني الذي وجدوه بصوت خاص، هو الشعر، إذ الأمر أمر نشيد، وأمر قصيد. إن ظهور حكايات العذريين وأشعارهم، كأنها الصدى البعيد لما تنازع فيه شعراء الجاهلية، يشهد على حيوية ثابتة الجذور: حيوية الكلام الذي يحول العالم إلى جمال”.

لقد أتتني فكرة توظيف شعر الغزل العفيف، بوصفه تعبيرًا عن الحب المقموع أحيانًا، في تصحيح جانب من هذه الصورة حين قرأت مخطوطة كتاب “تراث العاشقين” للروائي والسيناريست والباحث الأستاذ عبد المقصود محمد، كي أكتب له مقدمة، إذ جمع فيه جوانب أساسية من قصائد غزلية لأربعين شاعرًا عربيًا من القدماء والمحدثين والمعاصرين، فوضع يده على هذا المسار المهم الذي رسمته كلمات بليغة تفيض هيامًا بالحبيبات، وترى فيهن ما هو فوق الحس، وهي مسألة اعتنى بها الكاتب عناية ظاهرة، عن طريق اختياره لأبيات شعر تبرهن على ما أراد الذهاب إليه، وهنا يقول عمن اختارهم: “أربعون عاشقًا من كبار الشعراء العرب، خلدوا أسماءهم في تراث الشعر العربي بقصائد، عبروا فيها بصدق عن معاناتهم الشديدة ولوعتهم وعذابهم، فجعلونا نتعاطف معهم ونشفق على معاناتهم، وكما خلدتهم قصائدهم الشعرية فهم أيضًا كونهم عشاقًا أناروا دروب الشعر بتجاربهم الإنسانية وانفعالاتهم الصادقة سواء في شعورهم بالبهجة عند لقاء المحبوب، أو المعاناة والعذاب لفراق المعشوق أو الحرمان منه”.

وسأركز في مقدمتي تلك على الأربعة الأهم في تاريخ العرب الأقدمين، الذين صارت قصصهم أمثولات، تتوالد وتتناسل وتنتج معانيها مع توالي الأجيال، فهي تؤسس للحجة التي نبديها في هذا المقام، أو ترسخ أركانها، بعد أن تضع أرضية قوية لها، يتم البناء عليها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

حتى لو ذهبنا إلى ما خلص إليه طه حسين حين رأى أن هذه القصص إما مبالغ فيها أو مختلقة من عدم، فإن هذا لا يجرح فكرتنا هنا، بل يجليها ويزيدها ويعطيها زخمًا قويًا، لأنه يقول بوضوح إن العقل والمخيال الجمعي العربي في تلك الآونة كان يميل إلى الحب العذري، فيصنعه أو ينفخ فيه ليكبر ويصير أسطورة كاملة، قادرة على البقاء، مثل ما خلفته حكايات “عنتر وعبلة” و”قيس وليلى” و”قيس ولبنى” و”كثير وعزة”.

لقد صنعت نفوس العرب في ميلها إلى الحب العذري أبيات شعر تفيض بالروحانيات، ومنحتها قسرًا إلى أكبر شعراء العربية عبر الزمن وهو أبو الطيب المتنبي. فإليه نسبت أبيات تقول:

أبلغ عزيزًا في ثنايا القلب منزله     أني وإن كنت لا ألقاه ألقاه

وإن طرفي موصول برؤيته             وإن تباعد عن سكناي سكناه

يا ليته يعلم أني لست أذكره       وكيف أذكره إذ لست أنساه

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يا من توهم أني لست أذكره       والله يعلم أني لست أنساه

إن غاب عني فالروح مسكنه       من يسكن الروح كيف القلب ينساه

يساور شك عارم كل من يقرأ هذه الأبيات ويرى اسم المتنبي عليها، فهي بعيدة عن طريقته في النظم، ولا ترقى لعمق شعره، وهي أقرب إلى ما أنشده علي بن الجهم، حين قال:

بلِغ أَخانا تَوَلّى اللَهُ صُحبَتَهُ          أَنّي وَإِن كُنتُ لا أَلقاهُ أَلقاهُ

وَأَنَّ طَرفِيَ مَوصــولٌ بِرُؤيَتِهِ           وَإِن تَباعَدَ عَن مَثوايَ مَثواهُ

اضغط على الاعلان لو أعجبك

اللَهُ يَعلَمُ أَنّي لَـستُ أَذكُـرُهُ          وَكَيفَ أَذكُرُهُ إِذ لَستُ أَنساه

في كل الأحوال فإن العذرية واضحة طافحة لا يمكن نكرانها، وكل الشعر العذري في موقفه النفسي وبعض مفرداته، نسج على منوال مؤسسي العذرية أو أشهر من فيها على مدار تاريخ الأدب العربي القديم، وقد يعود هذا إلى عمق تجاربهم، أو إلى أن الأحوال النفسية للبشر في الغرام متشابهة، بل متطابقة.

الغزل العذري يتسم بصدق العاطفة، المشوبة بشوق ولوعة وحزن بسبب الفراق، وخوف ولهفة وتتيم إن جاء اللقاء، ومراوحة بين الأمل واليأس، والوصال والهجر، وهو يقوم على محبوبة واحدة، لا يصرح الحبيب باسمها، ويكتفي بالتمليح بصفاتها الروحية، ويستعين في وصف حبه ببعض مظاهر الجمال في الطبيعة مثل الرياح والليل والنجوم والبحر وغيره، وتوظيف الألفاظ التي تثبت عفة الشاعر وقويم خلقه.

ها هو عنتر بن شداد يخاطب حبيبته عبلة بحرقة ولهفة في ثنايا قصائد عدة، لا نجد فيها سوى رجل معذب بعشق بارح، ليس فيه سوى البين والهدر والعذاب، والخوف من ذهاب الشباب دون نيل المراد في القرب من المحبوبة، وهنا يقول:

أَلا يا عَبلَ قَد زادَ التَصابي    وَلَجَّ اليَومَ قَومُكِ في عَذابي

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وَظَـلَّ هَـواكِ يَنمو كُلَّ يَـومٍ  كَما يَنمو مَشيبي في شَبابي

ويقول في قصيدة أخرى تبين أنه يعيش في الأمنيات المعذبة، ويستعذب هذه العذاب:

لَو كانَ قَلبي مَعي ما اختَرتُ غَيرُكُمُ        وَلا رَضيتُ سِواكُم في الهَوى بَدَلا

لَكِـنَّـهُ راغِـبٌ فـي مَـن يُعَـذِّبُـهُ               فَـلَيـسَ يَـقبـَلُ لا لَومـًا وَلا عَـذَلا

يواصل هذا العاشق الجسور بث ضعفه الإنساني، وإطلاق طاقته الروحية في وجه المحبوبة، مع أنه هو الفتى القوي الجسور، الذي كان جسده الفائر أول ما يدل عليه بين قومه، وأكثر ما يعطيه شرعية وحضورًا بين أناس، يرفضون لونه الأسود، لكنهم في حاجة إلى سيفه البتار، فها هو يرجوها، ويشكو لها ما سيصيبه إن لم يجر الوصال، ثم يمعن في الروحانية باستدعاء الطيف والخيال، ويجعل موته أكثر رفقًا به من الفراق، ويضيف أشجانه على نوح طائر ضعيف وهو الحمام الذي ينوح وجعًا، وهو ما تعبر عنه أبياته هذه:

وَأَرجو التَداني مِنكِ يا ابنَةَ مالِكٍ             وَدونَ التَــداني نــارُ حَـربٍ تَضَــرَّمُ

فَمُنّي بِطَيـفٍ مِن خَيـالِكِ وَاسأَلي         إِذا عـادَ عَـنّي كَيـفَ بــاتَ الـمُتَــيَّـمُ

وَلا تَجزَعي إِن لَجَّ قَومُكِ في دَمي         فَـمـا لِيَ بَعـدَ الهَجـرِ لَحــمٌ وَلا دَمُ

أَلَم تَسمَعي نَوحَ الحَمائِمِ في الدُجى    فَمِن بَعضِ أَشجاني وَنَوحي تَعَلَّموا

ثم يناجي عنتر طائرًا آخر، لعله يشاركه أحزانه من فقد المحبوبة، بل إنه يتوحد معه، ويرى أن ما يضني هذا الطائر قد أضناه هو من قبله أو معه، ويدعوه كي يتمهل عنده ليشاطره هذه اللوعة التي لا تطاق، وتطلق من جوفه نارًا من فرط شوق وأسى، يجعل عيناه تفيضان بدمع منهمر، فها هو يقول:

يا طـائـر البـان قـد هـيجـت أشـجـاني     وزدتـنـي طـربــًا يا طـائـر البـــانِ

إن كنت تندب إلفًا قد فجعت به             فقد شجاك الذي بالبين أشـجاني

زدني من النوح وأسعدني على حزني    حتى ترى عجبًا من فيض أجفاني

وقف لتـنـظر ما بي لا تكن عـجلًا           واحذر لنفـسـك من أنـفاس نيـراني

نكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى.

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

الحب طريق الإنسان إلى الكمال

بين الأدب والأديب

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري

مقالات ذات صلة