قضايا شبابية - مقالاتمقالات

أستاذ الجامعة بين “إنتاج المعرفة” و”نقل المعرفة”

لا يماري أحدٌ في مقام أستاذ الجامعة وقدسية الدور الذي ينهض به في العلم نتاجًا ونقلًا، وما له من أثر حميد في نهضة الأمم والمجتمعات عبر المسير التاريخي للبشرية كلها على اختلاف أجناسها، وتباين أصقاعها، بل لعلنا لسنا في حاجةٍ –من الأساس– إلى الدخول في حومة جدلٍ حول هكذا شأن، استقرَّ مكينًا في مخيال العامة والخاصة، إلَّا مخيال أولئك الذين يغصون في ظلمات الجهل متنعمين به، لا يدرون من أمر الحقيقة ومن شأن الواقع كثيرًا أو قليلًا ذا بالٍ ينفع أو يضر، وكأني بأبي الطيب المتنبي قد قصدهم بقوله ذائع الصيت:

ذو العقلِ يشقى في النَّعيمِ بعقلِه        وأخو الجهالةِ في الشقاوةِ ينعمُ

الأستاذ الجامعي وإنتاج المعرفة

غير أنَّ الشأن الذي نوليه عنايتنا في هذا المقام المقتضب، هو إضاءة الدور الذي ينبغي على أستاذ الجامعة أن ينهض به بكفاءةٍ واقتدارٍ، وهو أمرٌ يقتضينا مطارحة هذا التساؤل الشائك: ما الهوية التي ينبغي أن ينماز بها أستاذ الجامعة من أغياره في مجال المعرفة: أهو إنتاجها؟ أم نقلها؟ أم هما معًا؟ ولعلنا نبادر إلى إجابةٍ مباشرةٍ مؤداها أن لأستاذ الجامعة في علاقته بالمعرفة إنتاجًا ونقلًا، نصيبًا موفورًا لا تخطئه عينٌ، ولا تغفل عنه ذاكرة حيةٌ، ذلك أنَّه من صميم مهام الأستاذ في الجامعة –كما هو ثابتٌ ومعلومٌ– قيامه بالتدريس، وبالبحث العلمي معًا، إضافةً إلى مهامه الرسالية المتعلقة بخدمة المجتمع على اختلاف صنوفها، وتنوع تجلياتها حسب قدرة الأستاذ، ومدى نشاطه في مجتمعه الذي يعمل في رحابه ضمن الحرم الجامعي.

دور الأستاذ الجامعي

Picture1 1536x1031 2 1024x687 - أستاذ الجامعة بين "إنتاج المعرفة" و"نقل المعرفة"لعلك تقول الآن: إن توطئةً كالسالفة لا تنبئ بجديدٍ، ولا تكشف عن إشكاليةٍ، إذ مغزاها معلومٌ بضرورة الواقع والتاريخ، وهذا حقٌّ لا مراء فيه، لكنها لازمةٌ للخلوص منها إلى مدار الإشكالية التي هي كبد هذا المقال، إذ لفت نظري في الآونة الأخيرة وما قبلها، استغراقُ بعض أساتذة الجامعة في دور “نقل المعرفة” لا دور “إنتاج المعرفة”، الشأن الذي يحفِّز على البحث عن كنه هوية الأستاذ الجامعي، وعن صميم المهمة التي ينبغي أن يضطلع بها!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

نقل المعرفة عبر التدريس

لعلنا في شأننا هذا، نوفر على القارئ الكريم بعض قولٍ أو قسطًا من جدلٍ قد لا يكون حميدًا، مغزاه أن المهمة التدريسية للأستاذ في الجامعة هي بالأساس في حقل نقل المعرفة والعلم إلى طلابه، وغالب الأساتذة ينهضون بهكذا مهمةٍ من حيث الوظيفة أو بهكذا رسالةٍ من حيث النبل والرفعة والقداسة، إذ هو في شأنه التعليمي ذو دور وضيء يبدد به ظلمات الجهل، ويمكِّن لأنوار العقل بالعلوم والمعارف المختلفة، التي لا ينبغي لها أن تقف بالطالب عند تأهيله وظيفيًا أو مهنيًا، وإنما يتحتم على الأستاذ في طوره النقلي هذا، أن يعمد عمدًا عن وعي وحكمةٍ واقتدارٍ، إلى أن يبعث في طالبه عوامل تكوين الشخصية السوية في قدرتها على الفهم السليم، وما يترتب عليه من رهافة التصور، وما يستتبعه من دقة الأحكام وبُعْد أغوارها استقراءً، واستنباطًا، وتمثيلًا، ومدى براعته في استيعاب الشأن الجاري في واقعه، ومجتمعه، وأمته، وتحديد القضايا والإشكاليات الكِيانية، وبناء موقف صحيح منها، وهذا يضع الأستاذ الجامعي بامتياز في حومة سؤال النهضة، وعلاقته بالمشروع الحضاري برمته لشعبٍ ما أو أمة ما.

نقل المعرفة عبر الترجمة

إضافةً إلى ما أسلفنا فيه القول في شأن النقل عبر التدريس، ثمة نقلٌ آخر للمعرفة عبر الترجمة عن اللغات الأجنبية المختلفة. هذا النقل تحديدًا كبد إشكالية هذا المقال، بل الباعث الحثيث على تحبيره، ذلك أنك ترى أنَّ عددًا لا بأس به من أساتذة الجامعة، قد وقع في فعل استغراق ترجمي –نسبةً إلى ترجمة– حتى ليكاد الأمر يطغى على هويته المائزة، فيغريك بالنظر إليه مترجمًا أكثر من النظر إليه أستاذًا.

اقرأ أيضاً: رؤى إبداعية في فلسفة التعليم

هل أستاذ الجامعة أستاذ أم مترجم؟

laptop 5428881 960 720 - أستاذ الجامعة بين "إنتاج المعرفة" و"نقل المعرفة"لعلَّه من حكمة الطرح هنا، أن نستدرك بقولٍ حاسمٍ فحواه إيماننا الكبير بدور الترجمة في نقل المعرفة، والعلوم من الأمم والحضارات إلى أمم أخرى عبر التاريخ الإنساني في عمومه المتأخر أو المتقدم قليلًا، ولعلك تزيد في الزعم فتؤكد ما هو مُؤَكَّدٌ بحكم الواقع والتاريخ، أن الترجمة لعبت دورًا رئيسًا في نهضة الأمم والشعوب، وفي تمثُّل الحضارات واستلهام عوامل قيامها، ومظاهرها، وآثارها، وفي معرفة الآداب والعلوم والفلسفات إلخ، هذا كلُّه من صميم إيماننا وجوهر وعينا الذي لا نقبل فيه مزايدةً، ولا نسمح فيه بتبديد طاقةٍ في جدلٍ حوله لا تُحمد عقباه، إنَّه شأنٌ لا نسأل عنه من الأساس، ولا نماري فيه بدءًا، لكنه لا يمنع من إثارة السؤال الشائك: هل أستاذ الجامعة “أستاذٌ” أم “مترجم”؟

في الإجابة عن هذا السؤال الشائك نقول: إننا نفهم عميقًا أن مَن تخصّصَ في الترجمة حتى أصبحت مهنته المائزة له، الدالة عليه من سواه، لا غبار عليه في الاستغراق في الترجمة، والتعمق في نقل العلوم والمعارف، والآداب، والفلسفات، إلخ، فهذا دوره وتلك وظيفته، بل لا بأس عندي أن يُلمَّ بعض أساتذة الجامعة بشيء من هذا حال بعض العلوم والمعارف التي تقتضي ميزة التخصص، وحُنكة الخبير الحاذق مثل الترجمة الأدبية…، هذا كله مفهوم ومقبول ومُقَدَّر.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

تعرف على: استراتيجيات التدريس الفعال وأهميتها

اقرأ أيضاً: التأقلم مع الحياة الجامعية

مهام الأستاذ الجامعي

لكن غير المفهوم وغير المحمود أن يتحول الأستاذ الجامعي إلى مترجمٍ، وأن يعتد بذلك فاخرًا بما أنجز ناسيًا دوره الرئيس، إذ الترجمة ليست هويته، وما هي بمهمته الأصيلة الصميمة لا لكثير أسبابٍ قد يطول شرحها، وإنما لأن الأستاذية في جوهرها مشروعٌ مؤسسيٌّ لإنتاج المعرفة، عبر القدرة الهائلة التي ينبغي عليها أن تكون قد تحصَّنت بها تأهيلًا لهذه الغاية تحديدًا.

لئن كانت الترجمة في عمومها جهدًا عضليًا قد ينهض به شخص أو مؤسسة متخصصة مثل المركز القومي للترجمة، وحتى المؤسسات البحثية التكنولوجية الحديثة مثل محرك جوجل وغيره، فإن الأستاذية طاقة فكرٍ، ومدارُ جدلٍ، ومضمارُ سجالٍ، وحومة نقاشٍ لَجِبٍ حول الأطاريح، والرؤى، والفلسفات، والأفكار…، الأستاذية التي أفهمُ حالةٌ من العروج العلوي الفاتن نحو خلق المعرفة عَبْرَ منهجٍ سديدٍ بعد لأيٍ من التمحيص، والتفتيش، بل العراك مع الفهوم السابقة، والتصورات الحاضرة، والاستشرافات المستقبلية.

من هنا يفارق الأستاذ مدار الوظيفة ليتأطر بامتيازٍ في مداره الرسولي، أو هوية الرسالة، تلك التي تصله بعُرًى وثقى بمشروع النهضة المجتمعية والأممية، وتجعله في القلب من شأن المثاقفة مع الآخر، والتأثر به، والتأثير فيه في آنٍ.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

من صفات الأستاذ الجامعي

everyone is smiling listens group people business conference modern classroom daytime 146671 16288 1 - أستاذ الجامعة بين "إنتاج المعرفة" و"نقل المعرفة"

إنّنا لنفهمَ عميقًا، أنَّ الأستاذية في صميمها، قرائحُ تقترحُ، وعقولٌ جريئةٌ تُجوِّز المغامرات والمخاطر العلمية لتُعبِّد سُبُلَها المنهجية عن حكمةٍ وتمكنٍ، وبه تغدو الأستاذية جارحةً من الجوارح التي تحلِّق عاليًا في سماء العلم والمعرفة، لا بُغاثًا من البِغْثانِ التي تنحدر إلى سفائف النقل، وتنخرط في غواية التبعية، وتسْكرُ بالنسخ عن الآخر، من دون الولوج معه في اشتباكٍ حقيقيٍّ يقارعه الحجة بالحجة، ويساجله البرهان بالبرهان، وينهض بالدليل قُبالة الدليل، متوخيًا في ذلك كله كشف الحقيقة، قاصدًا إبانتها والبرهنة عليها في تمكنٍ رائعٍ، وأسلوبٍ حصيفٍ، يأخذك بالدهشة، ويأسرك بالدقة، فيملؤك بالحقيقة العلمية والمعرفية عن آخرك، لتزهو بلذة الكشف، وتنعم بحكمة المنهج، وتزداد ألقًا بوضاءة الحق، فلكأني بالأستاذ الحقيقي في دقة فكره، وتحري علمه ومعرفته، قد قصده المتنبي في قولهِ مادحًا:

يتيهُ الدقيقُ الفكرِ في بُعْدِ غورِه    ويغرقُ في تيارِه وهو مِصْقَعُ

اقرأ عن: دور المعلم والأخطاء التي تواجه المجتمع

الأستاذ الجامعي وتفعيل عطائه المعرفي

ولئن كان الشأن كذلك، فما أحوجنا في حومة نهضتنا التي نرجوها إلى هذا الصِنْف من الأساتذة الذين يدركون جوهر رسالتهم تجاه مؤسساتهم الجامعية، وتجاه شعوبهم وأممهم، حتى يمكن لنا أن ننزاح عن وِهْدة التخلف، ونجتاز طور النقل والنسخ عن الآخر إلى أفق الكشف، والابتكار، والتساؤل، والاجتراح، والاقتراح، ومزاحمة الآخرين رؤاهم برؤانا، وأطاريحهم بأطاريحنا، ومناهجهم بمناهجنا التي تعي منجزهم، وتقف على دقائق تفاصيله، لكنها تتغيا تمثُّل الحقيقة بمرآة عيونها هي، وتكشف أسرارها بمجسَّاتها المنمازة من الآخر في سياق الذات العربية ذات الهوية الخاصة، والحضور المستقل عن العالم من دون انقطاعٍ عنه، أو الوقوع معه في شَرَك المعاداةِ، فندير له ظهورنا، أو نولي عنه الأدبار.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د. عبد الرحمن عبد السلام محمود

أستاذ النقد الأدبي الحديث بكلية الألسن جامعة عين شمس وكلية أحمد بن محمد

مقالات ذات صلة