إصداراتمقالات

طريق المعرفة يمر عبر بوابة المنهج العقلي

لا يستطيع أي فرد يعيش في وسط المجتمعات الإنسانية أن يفهم سلوكيات هذه المجتمعات بمعزل عن معتقداتها. فسلوك أي إنسان ليس وليد الصدفة، بل هو نتاج لمبادئ عملية تحدد الحسن من الأفعال وقبيحها، وهي ما يسمى ” الأيديولوجيا “، وتلك الأخيرة بدورها تعتمد على مجموعة أحكام نظرية تعبر عما هو كائن في الواقع وهي ما يمثل عقيدة الفرد، والتي يكون منشؤها المنهج المتبع في تحصيل المعرفة .

 أدوات المعرفة

ويأتي السؤال: ما هو المنهج المناسب لتحصيل المعرفة ؟ وما هي الأدوات المستخدمة في هذا المنهج؟
باختصار هي أربعة أدوات تستخدم في كشف الواقع (العقل، النص، القلب، الحس والتجربة)، وبناء على طريقة استخدامك لكل أداة يكون تصنيف منهجك المعرفي الذي يقودك إلى المعرفة .

النص المقصود به الكتاب المقدس والمنزل من عند الإله، والقلب هو الشعور الناتج من الأحلام والرؤى، والحس والتجربة هي ما يكون بالحواس الخمسة وما يجري من تجارب ومشاهدات في المختبر، والعقل هو القوة المدركة في نفس الإنسان.

لماذا المنهج العقلي ؟

حسنا، سنختص هنا بالحديث عن العقل ومنهجه. لماذ نعتبر المنهج العقلي هو أصح مناهج المعرفة ؟ لأنه يجمع ما بين الأدوات كلها ويستخدمها جميعا لكشف جميع جوانب الواقع. فإن من الحكمة أن نضع كل شيء في موضعه الصحيح، والذي يستطيع ذلك هو العقل. لأن له الحاكمية والقيادة لاستخدام كل الأدوات. فأداة العقل تعتمد في الأساس على البديهتين العقليتين: “لكل معلول علة” (أصل العلية) و “عدم اجتماع النقيضين”.ولو بحثنا في كل منهج يدعي استغناءه عن العقل نجد أنه تلقائيا يعود صاغرا للعقل في صورة العودة للبديهيات العقلية التي لا يختلف عليها البشر. فمثلا أساس المنهج التجريبي الذي يعتمد على الحس والتجربة هو بديهة عقلية وهي أصل العلية، ولولاها ما دُخل المختبر. وبذلك تكون حجية العقل ذاتية، أي دليل حاكميته ينبع من بديهياته.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ولو حاولنا أن نفهم طريقة عمل العقل، أي طريقة التفكير نجد أنها تنحصر في خطوتين: ما هو؟ ولمَ هو؟.”ما هو” المقصود بها التعريف بالشيء وفهم المعنى والمقصد منه، و “لمَ هو” المقصود بها هو معرفة السبب والسؤال عن الدليل. ثم بعد أن يجمع العقل المعلومات الكافية يرتّب ما بينها ليصل إلى نتائج جديدة لم يكن يعرفها قبلا. قد تكون تلك المعلومات مستمدة من النص، أو التجربة والحس، أو أنها مستوحاة من البديهيات العقلية دون الرجوع لأي اداة أخرى.

والقيادة هنا هي قيادة تراتبية وليس مقصود منها أفضلية، فلا نستطيع بناء البيت دون وضع أسس قوية ومتينة. أي أن العقل يعمل كالمايسترو لينظم العمل ما بين الأدوات كلها، فيحدد مجال اختصاص كل أداة، بل أنه يستطيع أن يحدد مجال اختصاصه هو ويرسم الحدود التي لا يستطيع أن يتخطاها، وتسمى منطقة الفراغ العقلي.

القائد يحتاج إلى تدريب

والآن بما أن العقل هو المايسترو والقائد،هل يصيب العقل في كل أحكامه؟ أم هل يمكن أن يخطيء القائد؟ نعم يمكن أن يخطيء. هل هذا سبب كاف ليطاح به من القيادة؟ لا، غير صحيح. لماذا؟ لأن هناك ميزانًا ثابتًا لو اتّبعه العقل في جمع المعلومات وتحليلها لكان ذلك عصمة له من الوقوع في الخطأ، وهو الميزان المنطقي.

إنّ المشكلة الحقيقية للأخطاء ليست في العقل ذاته وليست في ميزانه، لكنها في تغييب دور العقل وإهمال تدريبه، كل من يمارس الرياضة يعلم هذه الحقيقة: إهمال التدريب يضعف العضلات ويفسدها، كذلك العقل مثل عضلات جسم الإنسان، يحتاج إلى تدريب وتمرين مستمر حتى يقوى ولا يكونَ عقلًا ضعيفًا تتغلب عليه أهواء النفس. في غياب العقل القائد المقتدر تكون الفوضى المعرفية هي السائدة، وكما ذكرنا في بداية المقال تنعكس تلك الفوضى على سلوك الإنسان فيعيش حياة عبثية لا معنى لها ولا هدف، يشخص أيديولوجيته من هوى نفسه وليس على أساس واضح. فتكون قواه الغضبية أو الشهوية هي المسيطرة وترى أفعاله يشوبها التناقض لأن الهوى متغير وليس له ميزان يحكمه، لا يستطيع أن يرى حقًا ولا أن يقيم عدلًا. بل حتى لا يستطيع أن يتذوق السعادة الحقيقية لأنه ترك ما يجلب له هذه السعادة، ترك ما يميز إنسانيته عن باقي المخلوقات، فمهما بلغ سعيه في الحياة لن يستطيع ملء الخواء النفسي الذي تركه إهمال العقل.

إنّ هكذا إنسان لا يستطيع أن يبني مجتمعًا فاضلًا ولا حضارة إنسانية قوية، ومهما بدا لنا من تقدّمه هو في النهاية تقدم في جزء من حياته وإهمال كامل لجزء آخر، هذا العوار لابد أن يصيب أفراد المجتمع باكتئاب ويؤدي في النهاية لانهيار المجتمع نفسه طال الزمن أو قصر.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

 

اقرأ أيضا… العاطفة والعقل…حرب لا تنتهي وصراع يصعب على الكثير عقله

اقرأ أيضا … فلسفة المدينة الفاضلة

اقرأ أيضا … كوكب اليابان الشقيق

تابعونا على:
يوتيوب
فيس بوك
انستجرام

اضغط على الاعلان لو أعجبك

رشا الشتيحى

طبيبة أسنان

محاضرة وباحثة بفريق مشروعنا بالعقل نبدأ بالاسكندرية

مقالات ذات صلة