مقالات

كوكب اليابان الشقيق

من منا لم يشاهد على السوشيال ميديا “منشورات” مطولة تتحاكى عن مجتمعات هولندا المتدفئة بالحدائق الخضراء والشوارع الفسيحة المنعدمة الحوادث، وعن سجون السويد التي أُغلقت لعدم جدواها وقلة عدد ساكنيها، وعن مدى رفاهية تلك السجون التي تتكون من أسِرة غاية في الفخامة وشبابيك مطلة على حدائق ضخمة، ومجتمع اليابان الذي يمنح درجة الإمبراطورية لكل من يؤدي عمله في الدولة، تصور للمجتمعات التي يغلب عليها الخير المحض دون الشر، وكأن مواطني هذه الدول قد اختاروا العيش على أنوار فضيلة لا تطفئها رغبة في الشر منهم، وطريق للحق طواعية دون وجود القانون النافذ الذي يحذر من مغبة الوقوع في الجريمة أو الخطأ. بنظرة أعم هو تخيل للمدينة الفاضلة التي ينشدها الجميع، ولكنه للأسف قد استقر في الأذهان أنه قابل للتحقق بمعاييرالحضارة الغربية الحالية فقط وبعيد كل البعد عن أي مجتمعات أخرى غيرها.

استمرت تلك “المنشورات” التي تثير إعجاب الشباب وتحسرهم على أحوال بلادهم، حتى كانت صدمة رد الحسابات الرسمية لهذه الدول على السوشيال ميديا ونفيها التام لكل ما يتداول عنها من أن السويد دولة بلا سجون أو كاميرات مراقبة لرصد وتحرير المخالفات المرورية أو أن اليابان تمنح درجة وزير لعامل النظافة ومقام الإمبراطور للمعلم بالمدارس، فاليابان خصصت هاشتاج #خرافات_عن_اليابان للرد على هذه المبالغات.

صدمة كبيرة أيضا عندما نفى حساب السويد الرسمي إشاعة ظهرت نتيجة تغريدة انتشرت مؤخراً لشاب عربي كان يؤكد فيها عدم وجود كاميرات في الشوارع لرصد الجريمة، وامتد النفي ليشمل دولًا أخرى كالنرويج واليابان وكذلك أستراليا.

بداية، أتذكر مناقشة مع أحد الأصدقاء عن أوروبا فذُكرت أمامنا وسيلة تعذيب كانت في أسبانيا أثناء محاكم التفتيش لتعذيب الموروسكيين بل وحتى اليهود أثناء حرب إيزابيلا وفريديناند لطرد العرب من الأندلس والسيطرة الأوروبية على شبه جزيرة ايبيريا “أسبانيا والبرتغال حالياً”
جاء هذا المثال في معرض حديث عن الإرهاب، وهنا اتخذ الجميع دوره في الدفاع بشكل أشبه بالغريزي عن أوروبا و”الحضارة الغربية” ما بين الإنكار التام لتلك الحوادث، أو بحجة أننا كـ “عرب” لا ينبغي لنا أن نتتبع عيوب الآخرين ونترك عيوبنا!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وهذا مثال من التاريخ القديم فكيف إن ذُكر التاريخ الحديث من حروب عالمية واستعمار واستمتاع بقتل للشعوب الأخرى بهدف التوسع وقناعة راسخة أن الحضارة الغربية هي مركز الكون والجميع خاضع وخادم لها دون استثناء.

الأزمة هنا ليست في تصور هذه الأفكار والدفاع عنها بهذا الشكل المستميت، وإنما في التصديق الكامل بغير دليل على النزاهة الكاملة للحضارة الغربية لدى بعض الشباب العربي لدرجة انعدام الدافعية للقيام بالأعمال الإجرامية من الأساس، ولدرجة أن هذه الدول قد حضرت للرد بنفسها واصفة هذه المبالغات بالخرافات، لتصدم متابعيها بنفي ما يروج عنها وتعترف أن بها أيضاً سلوكيات خاطئة تقود للجريمة وللسجون. وتعترف بصراحة كاملة بأنها ليست من أفضل الدول كما يتردد عنها. وتنفي عن نفسها مفهوم “المدينة الفاضلة” الذي ألصق بها.

هل أمريكا أعظم دولة؟

 

في الغالب قد يكون هذا التصور العربي بناء على رغبة في العيش في هذا المجتمع الفاضل، وهو قابل للتحقق بشرط الإيمان أولاً بالهوية بعيدا عن التقليد الأعمى لمظاهر تلك الحضارة الغربية دون تدقيق والتمحيص فيما لا يتناسب مع هويتنا، فلم تشهد أوطاننا الانتكاسة إلا بعد الغزو الفكري الغربي والانفتاح غير العقلانى على الغرب.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

تعريف الغزو الثقافي:

وبالعودة لمفهوم الهوية فهي تعني كما وضحها ابن خلدون في مقدمته “بكل شيء طبيعة تخصه”، وعلى هذا فانتفاء خصوصية الشيء هو انتفاء لوجوده ونفيه. ولغويًا تعني جوهر الشيء وحقيقته المميزة عن غيره، وبالتالي هي الضوء الكاشف لكل مجتمع ليبني عليه طريق النهوض والارتقاء بالمجتمع وصولا للمدينة الفاضلة، أما مجرد التقليد فهو الطريق للانهيار والبحث عن هذا المجتمع الفاضل في المجتمعات الأخرى.

ومن الضروري أن نذكر أن المدينة الفاضلة ليست هي التي ينعدم فيها الشر أو الجريمة لأن هذا أشبه لمجتمع ملائكي لا يحاكي الطبيعة الإنسانية في شيء، وإنما هي ما يتحقق فيها العدل في العقاب، وتحمي كامل الحقوق وخاصة للضعفاء والمساكين وتوفير سبل التكامل وتحصيل الفضيلة أمام الجميع.

إن تحول مجتمعاتنا لمدن فاضلة ممكن جدا، خاصة أنها تحمل بذرة التقدم والتطور والمكون الحضاري المطلوب في أحشائها، المجتمع الفاضل لا بد وأن يستمد قوته ووجوده ممن يعيشون فيه ولا يستورد مقومات حضارته من الآخر، خاصة أن الآخر حضارته عبارة عن الإفراط في الملذات الوهمية الجسدية فقط واهتمام مبالغ فيه بالاستهلاك والبحث عن السعادة في الممتلكات، والتغافل عن أن بوابة المجتمع الفاضل لا يحرسها سوى الإنسان العادل الذي يحقق التوازن ما بين متطلبات الجسد ومتطلبات الروح، ثم تحويل هذا التوازن ليعم كل أنحاء المجتمع.

اقرأ أيضاً:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

عصر السيولة ومفاهيمه عن الإنتماء وعلاقة ذلك بالغزو الفكري

الاستعمار الحديث .. هكذا يربي المستعمر ليضمن بقاءه

شفتني وأنا سعيد! .. مواقع التواصل الاجتماعي وعلاقتها بالسعادة

أحمد صالح

عضو فريق مشروعنا فرع القاهرة

مقالات ذات صلة