قضايا وجودية - مقالاتمقالات

العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء السابع عشر

المدرسة المشَّائية: (15) ابن سينا: الشيخ الرئيس وكتابه الشفاء

فلسفة الوجود السينوية: (15) وجود العناية والشر في العالم

تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة (ج 16) عن وجود العالم. وتعرفنا أربعةَ أسبابٍ طرحها ابن سينا تفسيرًا لوجود الشر في العالم: 1. ممكن الوجود (العالم) يستحيل أن يكون خيرًا مطلقًا. 2. الشرُ بالعَرَض ولضرورةٍ يوجبها الخير. 3. الشر لا حقيقة له. 4. أنواعُ الشرِ كلُها نسبية. ولنواصل –في هذه الدردشة– بقية تأويل الشيخ الرئيس لوجود الشر في العالم.

5. وجود الشر لأجل وجود المادة والشر ضروري للخير

الشر النسبي موجودٌ وذلك لأجل المادة. والشر يلحق المادة لأمر أول يعرض لها في نفسها، ولأمر طارئ من بعد (على المادة) يعرض لها من خارج. “وأما الشرور التي تتصل بأشياء هي خيرات، فإنما هي من سببين: سبب من جهة المادة أنها قابلة للصورة والعدم، وسبب من جهة الفاعل.

النار طبيعتها أن تحرق وتسخّن وأن يُحرق بها ويُسخّن من قبل فاعل. ثم كان الكل يقتضي وجود الإحراق والتسخين وأن يكون هناك إحراق وتسخين، فلم يكن بُدٌ من أن يكون الغرض النافع في وجود هذين يستتبع آفاتٍ تعرضُ من الإحراق والاحتراق، كمثل إحراق النار عضو إنسان ناسك، لكن الأمر الأكثري هو حصول الخير المقصود في الطبيعة، والأمر الدائم أيضًا.

أما الأكثري فإن أكثر أشخاص الأنواع في كنف السلامة من الاحتراق (أكثر المخلوقات لم يصبها الاحتراق)، وأما الدائم فلأن أنواعًا كثيرة لا تستحفظ على الدوام إلا بوجود مثل النار وأن تكون محرقة، وفي الأقل ما يصدر عن النيران الآفات التي تصدر عنها.

كذلك في سائر الأسباب المشابهة لذلك، فما كان يحسن أن تترك المنافع الأكثرية والدائمة لأغراض شرية أقلية.. فليس من الحكمة الإلهية أن تترك الخيرات الدائمة، والأكثرية لأجل شرور في أمور شخصية غير دائمة (لا يحترق كثير وما أصابه الاحتراق قليل جدًا)”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الشر ضروري للخير

“ثم إن الشر يصيب أشخاصًا، وفي أوقات. والأنواع محفوظة. والشر في أشخاص الموجودات قليل، ومع ذلك فوجود الشر (النسبي) ضرورة تابعة للحاجة إلى الخير”. “فإفاضة الخير لا توجب أن يترك الخير الغالب لشر يندر، فيكون تركه شرًا من ذلك الشر”، كما يقول الشيخ الرئيس.

فما كان كله شر (الشر المطلق) فلم يوجد في العالم. أما الشر النسبي فموجود وهو ضروري للخير، أي ضروري لثبات النظام الكلي للعالم. فالشر في أشخاص الموجودات قليل. ومع ذلك فإن وجود الشر في الأشياء ضرورة تابعة للحاجة إلى الخير.

الشر الجزئي –عند ابن سينا– ضرورة، وفي ذلك يقول ابن سينا: “فالنار إذا كان وجودها أن تكون محرقة، وقد كان وجود المحرق هو أنه إذا مس ثوب الفقير أحرقه، وكان وجود ثوب الفقير أنه قابل للاحتراق فيستحيل أن تكون هي على ما هي عليه ولا تؤدي إلى شرور، فيلزم من أحوال العالم بعضها بعضًا بالقياس إلى بعض أن يحدث في نفس ما صورةُ اعتقادٍ ردئ، أو كفرٍ، أو شرٍ آخر، في نفس أو بدن، بحيث لو لم يكن كذلك لم يكن النظام الكلي يثبت، فلا نعبأ ولا نلتفت إلى اللوازم الفاسدة (من مختلف الشرور) التي تعرض (لبعض الموجودات) بالضرورة”.

إذا كان الشرُ أمرًا تطلبه وجودُ الخير ونظامُ العالمِ الثابتُ، فلماذا لمْ يخلق اللهُ عالمًا يخلو –تمامًا– من الشر؟ لمَ لمْ يمنع الله الشريةَ عن العالم أصلًا، حتى يكون كله خيرًا؟

6. استحالة وجود عالم يخلو من الشر

معضلة الشرإن قال قائل: فقد كان جائزًا أنْ يُوْجِدَ المدبرُ الأولُ (الله) خيرًا محضًا مبرأ من الشر (أي عالم بلا شر)، أجابه ابن سينا قائلًا: “هذا لم يكن جائزًا في مثل هذا النمط من الوجود (عالمنا)، وسوف يكون أعظم خلل في نظام الخير الكلي (للعالم)“. ولنا أن نتخيل عالمنا يخلو من كل شر، أليس ذلك التخيلُ يناقض ما عليه نظامُ عالمنا الكلي الثابت؟ ألسنا نطلب بذلك أن نستبدل الجنةَ بعالمنا؟ ولكننا هاهنا في الدنيا للعمل والاختبار، والجنة في الآخرة جزاء على أعمالنا ومقاومتنا للشر، إن كان في مقدورنا (مثل الشر الأخلاقي) والصبر عليه، وإن لم يكن في مقدورنا وخارج عن إرادتنا (مثل الشر الطبيعي).

7. الشرُ كثيرٌ ولكنه ليس أكثريًا

إن قال قائل: ليس الشرُ شيئًا نادرًا أو أقليًا، بل هو أكثري. أجاب الشيخُ الرئيس: “فليس هو كذلك بل الشر كثير، وليس بأكثري، وفرق بين الكثير والأكثري، فإن هاهنا أمورًا كثيرة هي كثيرة وليست بأكثرية مثل الأمراض، فإنها كثيرة وليست أكثرية. فإذا تأملت هذا الصنف الذي نحن في ذكره من الشر وجدته أقل من الخير الذي يقابله، ويوجد في مادته فضلًا عنه بالقياس إلى الخيرات الأخرى الأبدية”.

خلاصة تأويلية:

يوجد الشرُ بكثرة في عالمنا، لأنه عالم الإمكان والمادة. وعالم الإمكان لا يكون خيرًا مطلقًا، أي لا يكون إلهًا واجبَ الوجود. فإن ظننا ذلك زالتِ التفرقةُ بين الواجب والممكن، بين الله المجرد الكامل المطلق، وبين العالم المادي الناقص النسبي. إذن فالإمكان هو أصل الشر في الوجود، كما أن الشر أمرٌ عارض نسبي، لا حقيقة ذاتية له، أمرٌ اقتضته ضرورةُ وجودِ الخيرِ، ويستحيلُ أنْ يوجدَ العالم الممكنُ دونَ شرٍ نسبي، وإلا لصارَ الممكنُ واجبًا، لأن “الجمع بين النقيضين محالٌ”.

في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتَنا التأويليةَ مع فلسفة الوجود السينوية: وجود النفس الإنسانية: لا ماديتها وخلودها.

اقرأ أيضاً: 

الجزء الأول من المقال، الجزء الثاني من المقال، الجزء الثالث من المقال

الجزء الرابع من المقال، الجزء الخامس من المقال، الجزء السادس من المقال

الجزء السابع من المقال، الجزء الثامن من المقال، الجزء التاسع من المقال

الجزء العاشر من المقال، الجزء الحادي عشر، الجزء الثاني عشر من المقال

الجزء الثالث عشر من المقال، الجزء الرابع عشر من المقال

الجزء الخامس عشر من المقال، الجزء السادس عشر من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د شرف الدين عبد الحميد

أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب جامعة سوهاج