العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء السادس عشر
المدرسة المشَّائية: (14) ابن سينا: الشيخ الرئيس وكتابه الشفاء
فلسفة الوجود السينوية: (14) وجود العناية والشر في العالم
تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة (ج 15) عن وجود العالم عند ابن سينا. ولنواصل –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ لفلسفة الوجود السينوية: وجود العناية والشر في العالم.
و. وجود العناية الإلهية في العالم
اختلف ابن سينا عن أرسطو –إلى درجة التناقض– في مسألة عناية الله بالعالم، فأرسطو جعل من المحرك الأول كائنًا سعيدًا، يتأمل ذاته، لا علاقة له بالعالم، ولا يعتني به من قريب أو من بعيد. هنا يظهر استقلالُ ابن سينا والفلاسفة المسلمين عن أرسطو.
نادى ابن سينا بوجود العناية الإلهية في العالم. وفي ذلك يقول الشيخُ الرئيس: “لا سبيلَ لك إلى أنْ تُنْكرَ الآثارَ العجيبةَ في تكوّن العالم، وأجزاء السماوات، وأجزاء الحيوان والنبات، مما لا يكون اتفاقًا (مصادفة)، بل يقتضي تدبيرًا ما، فيجب أن يعلم أن العناية هي كون الأول عالمًا لذاته بما عليه الوجود في نظام الخير، وعلّة لذاته للخير والكمال بحسب الإمكان، فيعقل نظامَ الخير على الوجه الأبلغ في الإمكان، فيفيض عنه ما يعقله نظامًا وخيرًا على الوجه الأبلغ الذي يعقله فيضانًا على أتم تأدية إلى النظام، بحسب الإمكان، فهذا هو معنى العناية”.
دليل العناية هذا ما يسمى في عصرنا باسم “دليل النظام” أو “دليل التصميم”، أو “دليل التصميم الذكي”. وهو دليل يسهم فيه كلُ عصر بما عنده من معطيات العلم الطبيعي. وفي كل يوم تتراكم شواهدُهُ وتتجمعُ –محسوسةً ومعقولةً– حول محورٍ واحدٍ هو: العناية الإلهية بالعالم موجودة، يثبتُها العلمُ وتبرهنُ عليها الفلسفة.
لمْ يكتفِ ابن سينا بإثبات العناية، بل أسهم إسهامًا كبيرًا في محاولة حل أعقد الإشكاليات الفلسفية المتعلقة بالعناية، أعني مسألة وجود الشر في العالم، ما يسمونه بـ”صخرة الإلحاد”، أعني الصخرة الصُلبة التي يقف عليها الإلحادُ المعاصر: مشكلة الشر دليل واهٍ على عدم وجود الله.
ز. وجود الشر في العالم
1. ممكن الوجود (العالم) يستحيل أن يكون خيرًا مطلقًا
يفسر ابن سينا الشرَ الموجودَ في عالمنا وفقًا لنظريته الأنطولوجية (فلسفة الوجود) في الواجب والممكن، فواجب الوجود هو خيرٌ مطلقٌ، وممكنُ الوجود لا يمكن أن نتصوره خيرًا محضًا، ولا يمكن أن نتصوره شرًا محضًا كذلك. لو كان الممكن الوجود –أي عالمنا– خيرًا محضًا لا يوجد فيه شرٌ لصار واجبَ الوجودِ، أي لصار عالمنا إلهًا خيرًا كاملًا مطلقًا! وقد ثبت أن واجب الوجود واحدٌ لا يتعدد ولا يتكثر بأي وجه من الوجوه، فاستحال أن يوجدَ واجبانِ للوجود، بل يوجد واجبٌ واحدٌ للوجود، هو الواجب الوجود بذاته (راجع ج 13).
2. الشرُ بالعَرَض ولضرورةٍ يوجبها الخير
إذا كان عالمُ الإمكان يستحيل عليه أن يكون خيرًا محضًا، فلمْ يبقَ إلا أن نتصوره، كما يقول ابن سينا: “عالمًا يُرادُ فيه الخيرُ قصدًا وأصلًا، ويأتي فيه الشرُ عَرَضًا لضرورةٍ يقتضيها الخيرُ ولازم من لوازم الخير، المتاح للممكنات”.
الشر بالعَرَض يعرّفه ابن سينا بأنه: “المعدوم، أو الحابس للكمال عن مستحقه”. إن وجود الشر سمةُ عالم الإمكان، لأن الشيء الذي هو “ممكن الوجود” ناقص لا محالة. فالأصل هو وجود الخير في العالم والعرض هو وجود الشر. والحس والعقل يثبتان هذه الحقيقة. فالشر عرض، كما أنه لا حقيقة له.
3. الشر لا حقيقة له
إذا كان الشرُ عارضًا في الطبيعة فهو لا حقيقة له. وبواسطة فكرته الرئيسة عن الواجب والممكن يفرق ابن سينا بين الخير والشر، فيقول: “إن واجب الوجود بذاته خيرٌ محض، والخير بالجملة هو ما يتشوقه كلُ شيء. وما يتشوقه كلُ شيء هو الوجود، أو كمال الوجود من باب الوجود، والعدم من حيث هو عدم لا يتشوق إليه، بل من حيث يتبعه وجود أو كمال للوجود، فيكون المتشوق بالحقيقة الوجود، فالوجود خيرٌ محض وكمالٌ محض. فالخير إذن هو ما يتشوقه كل شيء في حده ويتم به وجوده، والشر لا ذات له، فهو إما عدم جوهر، أو عدم صلاح لحال جوهر، فالوجودُ خيريةٌ، وكمالُ الوجودِ خيريةُ الوجود. والوجود الذي لا يقارنه عدم –لا عدم جوهر، ولا عدم شيء للجوهر، بل هو دائمًا بالفعل– فهو خيرٌ محض، والممكن الوجود بذاته ليس خيرًا محضًا، لأن ذاته بذاته لا يجب له الوجود بذاته، فذاته تحملُ العدمَ، وما احتمل العدم بوجه ما فليس من جميع جهاته بريئًا من الشر والنقص، فإذن ليس الخير المحض إلا الواجب الوجود بذاته”. فإذا كان الشرُ عدمَ الخير أو عدمَ كمال الخير، فكل أنواعه تكون نسبيةً.
4. أنواعُ الشر كلُها نسبية
يعدد ابن سينا أنواعًا لما نسميه شرًا بأنواعه الثلاثة: الشر الطبيعي، الشر الأخلاقي، الشر الميتافيزيقي. وكل هذه الشرور نسبية ولا تكون شرًا بالذات، أي هي شر من جهة، وقد تكون خيرًا من جهة أخرى، فيقول: “واعلم أن الشر يقال على وجوه: فيقال شر، لمثل النقص الذي هو الجهل والتشويه في الخلقة، ويقال: شر لما هو مثل الألم والغم، ويقال: شر للأفعال المذمومة، ويقال: شر لمبادئها من الأخلاق، ويقال: شر لنقصان كل شيء عن كماله، مثل الظلم أو بالقياس ما يفقد من كمال يجب في السياسة الدينية كالزنا. وكذلك الأخلاق، وإنما هو شر بالقياس إلى السبب القابل له، أو بالقياس إلى ما هو خير. وهذا شر نسبي أي شر من جهة وقد يكون خيرًا من جهة أخرى لا شرًا بالذات”.
كل شر هو شر نسبي، هو عدم، ليس له وجود محسوس، بل يظهر عن طريق الموجودات، مثل وجود العمى ليس له وجود مجرد، وإنما هو شرٌ يظهر بواسطة موجود هو العين. فالمادةُ سببٌ للشر. وكل شر هو عارض ونسبي وليس جوهرًا أو مطلقًا.
في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل بقية تأويل الشيخ الرئيس لوجود الشر في العالم.
مقالات ذات صلة:
الجزء الأول من المقال، الجزء الثاني من المقال، الجزء الثالث من المقال
الجزء الرابع من المقال، الجزء الخامس من المقال، الجزء السادس من المقال
الجزء السابع من المقال، الجزء الثامن من المقال، الجزء التاسع من المقال
الجزء العاشر من المقال، الجزء الحادي عشر، الجزء الثاني عشر من المقال
الجزء الثالث عشر من المقال، الجزء الرابع عشر من المقال، الجزء الخامس عشر من المقال
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا