مقالات

متى يكف الجهل عن ثرثرته؟!

بعضهم، بل أكثرهم، كلما رأيتهم أو استمعت لهم أو قرأت كتاباتهم تقفز إلى مخيلتي صور كبار كفار قريش، تلك الصور التي ترسخت في ذهني من خلال الأفلام الدينية القديمة مثل «فجر الإسلام» و«الشيماء» و«هجرة الرسول»، إلخ. يحلو لي وقتئذٍ أن أطلق العنان لخيالي وأتأمل مواطن التشابه بين أيديولوجية الحياة القرشية قديمًا وأيديولوجية الوضع الحضاري في عالمنا العربي المُعاصر،

حيث الخواء الفكري، والنرجسية والاستعلاء، والقبلية، والمكتسبات الجائرة من هيمنة صارخة لأناس لا يُطرب آذانهم سوى أنين العبيد وصراخهم، وتجارة رائجة محتكرة تتعبد في محراب الثراء شتاءً وصيفًا، وملذات وشهوات تُشبع حاجات النفس الأمارة بالسوء، وآلهة متعددة تُسَوّق لوهم التحضر والرفاهية!

تخيل معي

ربما كانت أوجه التشابه قد اكتملت لو توافر للقرشي قبل الإسلام ما يتوافر للعربي اليوم من قدرات تكنولوجية متسارعة واردة الخارج، ووسائل إعلام وتواصل مُقلصة للأزمنة والمسافات، وقوة قمع خشنة وناعمة، وسُبل تزييف وخداع وتخدير وتجهيل، ومزادات جامعية لبيع الألقاب العلمية لكل من امتلك حفنة من المال، إلخ. لكن هذه المقومات الأخيرة تجعل عبثية الحياة اليوم أشد بأسًا وأكثر قوة وأعمق تأثيرًا.

تخيل معي عدد المتابعين والمؤيدين والمهللين لو كان لأبي لهب أو أبي جهل أو غيرهما من كُفار قريش منصة إعلامية فضائية، أو منبرٌ دعوي أو ساحة شعبوية أو موقعٌ إلكتروني، أو قناة على اليوتيوب، أو حتى صفحة على أحد مواقع التواصل الاجتماعي!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

تخيل معي ماذا لو كان لكل منهم فريقٌ إعلامي يلاحقه كلما تحرك أو تحدث أو كتب شيئًا تافهًا، يُوزع على الناس ابتساماته البلهاء ويزف إليهم لآلئ حكمته وإنجازاته، أو على الأقل لو كان بيد أحدهم هاتفٌ مزود بكاميرا يُسجل تحركاته ويبث لقومه وأتباعه لحظات تأمله وجولاته وتصريحاته في شعاب مكة وتلالها ودروبها!

دقق في وجوه الناس من حولك، وفي وسائل الإعلام المختلفة، وعلى منصات التواصل الاجتماعي، وسترى وجه أبي لهب عبد العزي، ووجه أبي جهل بن هشام المخزومي، ووجه الوليد بن المغيرة، ووجه الحارث بن قيس بن عدي، إلخ، وسترى ألف ألف ألف وجه لمسيلمة الكذاب!

الجميع يتجمل

في العالم العربي اليوم، الجميع يخون الجميع، والجميع يخدع الجميع، الجميع يتجمل كذبًا، وكل امرئ –إلا ما رحم ربي– يعلم أنه كاذب في تجمله، ويعلم الجميع أنه كاذب، وهو يعلم بدوره أن الجميع يعلم أنه كاذب، ومع ذلك يُمارس الجميع الكذب والخداع بثباتٍ وشجاعة وإتقان!

أصبحنا مجرد تروس متفاوتة الحجم في ماكينة فساد ضخمة، تعمل بلا توقف، وتُمرر إنتاجها عبر ماكينة تجميل كاذب أكثر ضخامة، تبتلع وتطحن كل القيم التي جاهدت الإنسانية من أجلها طويلًا، بأنبيائها ومفكريها وعلمائها وفنانيها وبُسطائها في مشارق الأرض ومغاربها.

أيا وطني.. متى يكف الجهل عن ثرثرته، والوهم عن ضجيجه، والفساد عن رونقه، والتخلف عن كبريائه؟ حتى الصمت لا يكف عن صخبٍ يدمره، ولم يعد في القلب ولا في العقل متسعٌ للمزيد.. رحم الله وطني، رحم الله القابضين على الجمر!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

اقرأ أيضاً:

بطون تكاد تنفجر من الجهل!

رَفَه الجهل ومعاناة الحكمة

الإعلام حصان طروادة الحديث

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية

مقالات ذات صلة